فرنسا... أزمة داخل الأزمة
عربي
منذ 5 أيام
مشاركة
ينتقل حكم الرئيس إيمانويل ماكرون في فرنسا من أزمة إلى أخرى أكثر تعقيداً، ومنذ انتخابه في ولاية رئاسية ثانية في مايو/أيار 2022، بات أسير القوى السياسية المتنازعة بين أقصى اليمين واليسار، حيث يمتلك هذان القطبان المتنافسان الأكثرية البرلمانية، لكنهما يفتقران إلى القواسم المشتركة للتفاهم فيما بينهما لتشكيل حكومة مشتركة قادرة على إدارة البلد من دون نزاعات سياسية صارت تترجم نفسها في الشارع على هيئة تظاهرات عنيفة وإضرابات مديدة متكررة، تطرح مطالب اجتماعية، وسط تراجع في أداء الاقتصاد، وتردي الخدمات، وارتفاع معدلات البطالة والعنف والجنوح والجريمة المنظمة. لعلّ الوجه السافر للأزمة هو ما أقدم عليه سيباستيان لوكورنو، رئيس الوزراء المكلف، عندما قدم استقالة الحكومة في السادس من شهر أكتوبر/تشرين الأول الحالي، بعد ساعات على تشكيلها، لتكون الأقصر عمراً في تاريخ فرنسا، بعد أن ولدت بصعوبة بتشكيلة هجينة لم تكن جديدة بالكامل، بل ضمّت وزراء أساسيين من سابقتها كالداخلية والخارجية. ترى معظم الأطراف السياسية المتنافسة أن استقالة ماكرون باتت الحل بحث لوكورنو عن طريق سهل يُجنّبه المطبات التي قادت إلى سقوط الحكومة التي سبقته برئاسة فرانسوا بايرو، بسبب عدم حصولها على نصاب برلماني قانوني، وحاول أن يخرج بتوليفة يحافظ فيها على بعض الوزراء الأقوياء كوزيري الداخلية والخارجية برونو روتايو وجان نويل بارو، غير أن النتيجة جاءت معاكسة بسبب المناكدات الكثيرة بين بعض الشخصيات والأحزاب، والأجندات السياسية الحزبية والانتخابية لبعض الوزراء. وفي سابقة لم تعهدها فرنسا، تحدث رئيس الحكومة عن الصعوبات التي واجهها وحالت دون التقليع، بل التراجع في لحظة حرجة جداً. وألقى بالمسؤولية على بعض الوزراء، ولمّح بصورة أساسية إلى وزير الداخلية برونو روتايو رئيس حزب الجمهوريين، الذي يُعدّ أحد صقور اليمين العنصري المتطرف المتشدد تجاه الهجرة والقوانين الخاصة بتأشيرات وإقامات الأجانب. رئاسيات فرنسا بين أقصى اليمين واليسار واللافت أن روتايو تبنى المعلومات التي تسربت لاحقاً وتُحمله مسؤولية إفشال إقلاع الحكومة الجديدة، وكان أكثر صراحة من رئيس الوزراء المستقيل الذي تجنب نشر الغسيل بصراحة، واكتفى بالتلميح. وذهب روتايو إلى كشف تفاصيل ما دار بينه وبين لوكورنو في مفاوضات تشكيل الحكومة، التي لم تستمر سوى سويعات معدودة. وقال في حديث صحافي إنه أبلغه متسائلاً: "كيف يمكن ضبط قضية الهجرة، في حين أن وزارة الداخلية ليس من صلاحياتها منح التأشيرة، وتتحكم فقط بملف خروج المهاجرين المطرودين أو المُرّحلين". مع العلم أن فرنسا تعتبر الدولة الأوروبية الوحيدة من بين الدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي رحّلت أكبر عدد من المهاجرين (قال روتايو في فبراير/شباط الماضي إن ترحيل المهاجرين غير النظاميين من فرنسا زاد بنسبة 27% في عام 2024). ووفق تقرير صدر الأسبوع الماضي لمكتب الإحصاء الوطني (إنسي)، فإن عدد المقيمين الأجانب في البلاد، ومعظمهم من المهاجرين، بلغ 8.8% من عدد السكّان (68.4 مليون نسمة)، أي دون المعدل الأوروبي البالغ 9.6%. وصرّح روتايو أخيراً بأن الحل للخروج من الأزمة التي تمر بها فرنسا هو استقالة الرئيس الفرنسي، حتى يفسح له المجال من أجل خوض السباق نحو قصر الإليزيه، غير أنه لا يمانع في الذهاب إلى حكومة ائتلافية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. ليس روتايو وحده من طالب باستقالة ماكرون، بل إن الأطراف السياسية المتنافسة من اليسار واليمين ترى في ذلك الحل المخرج من حالة المراوحة في المكان التي تحولت إلى أزمة سياسية. وهناك قناعة لدى المعسكرين اليساري واليمني بأن فوز أحدهما يقود البلد إلى حكومة من لون سياسي واحد، ويحسم حالة التخبط القائمة بسبب عدم توفر أكثرية برلمانية قادرة على تشكيل حكومة متجانسة من لون واحد، أو متوافقة على حدود دنيا. ارتفع السقف السياسي لكل من اليمين واليسار لشعورهما بأن اللحظة مؤاتية للتخلص من رئيس ضعيف تواجه فرنسا أزمة سياسية متكاملة الأركان، وقد باتت منذ بدء الولاية الثانية لماكرون مُركبة، ذات شقيّن. الأول أن السلطة أفلتت من ماكرون في نظام ذي طبيعة رئاسية برلمانية، وباتت في يد البرلمان منذ الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي جرت في إبريل/نيسان ويونيو/حزيران 2022، والتي توزعت فيها المقاعد بين ثلاث قوى سياسية، لا يملك أي منها أكثرية كافية لتشكيل حكومة تنال الثقة من مجلس النواب (وتفاقم ذلك إثر الانتخابات التشريعية المبكرة التي دعا إليها ماكرون العام الماضي). والثاني أن نظام الحكم في الجمهورية الخامسة التي أسّسها الجنرال ديغول عام 1958 يعتمد على أن تتولى رئاسة الحكومة أكثرية برلمانية من حزب سياسي واحد، ولم يفتح الباب واسعاً أمام الحكومات الائتلافية. بقي نموذج الحكم على هذا الأساس صالحاً، طالما أن البلد ينقسم إلى قطبين يساري ويميني، مثّلهما في السابق كل من الحزب الاشتراكي واليمين التقليدي الديغولي، وحول كل منهما تلتف قوى أصغر تدور في أحد الفضاءين الواسعين، وبقيت هذه القاعدة سائدة حتى وصول ماكرون إلى الرئاسة في مايو 2017، حيث عمل على تغييرها من خلال استقطاب شخصيات من اليمين التقليدي واليسار إلى تياره، وأحدث بذلك هزّة قوية في مركز توازن الحياة السياسية، من دون توفير صمّامات أمان، في حال عدم حصول تياره على أكثرية برلمانية تسمح بتشكيل حكومة ائتلافية على قياس ما هو حاصل في بلدان أوروبية أخرى كألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، التي تحكمها حكومات مختلطة من اليمين واليسار من دون نزاعات تشلّ البلد. أزمة حكم ونظام حاول ماكرون في الولاية الثانية تجريب خيارات أخرى للحكم من خلال تركيب جسم برلماني يستطيع من خلاله الحكم مدة خمسة أعوام، لأن تياره السياسي لا يمتلك المواصفات، ويحتاج إلى من يتحالف معه ليسنده في البرلمان لدى تمرير القوانين الأساسية وخصوصاً الموازنات والاتفاقات وبعض قوانين الإصلاح، وقد اختار في البداية لرئاسة الحكومة شخصية ذات ماض اشتراكي هي إليزابيت بورن التي أمضت قرابة عامين في منصبها، لكنها فشلت في نهاية المطاف في مهمتها، واضطر إلى حلّ البرلمان في يونيو 2024 على أمل أن تفرز الانتخابات التشريعية طرفاً سياسياً قادراً على الحكم، وكانت النتيجة مراوحة في المكان، حيث ازداد رصيد كل من تيار اليسار الذي انضوى في تجمع يقوده رئيس حزب فرنسا الأبية اليساري الراديكالي جان لوك ميلانشون، على اعتبار أنه الحزب الذي نال أعلى عدد من المقاعد البرلمانية، يليه الاشتراكيون والخضر والشيوعيون، وكذلك اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبان. ازداد التجاذب حدة، وارتفع السقف السياسي لكل من اليسار وأقصى اليمين، نتيجة حسابات لدى كل منهما بأن اللحظة مؤاتية لإطاحة رئيس الدولة الضعيف، والذهاب إلى انتخابات مبكرة، وبات ذلك مطلباً يتكرر من قبل ميلانشون ولوبان في كل مناسبة. ولكن ماكرون لم يسلم بذلك وازداد إصراراً على إتمام ولايته حتى مايو 2027، وأخذ يجرب كل أنواع الحلول الترقيعية، وعلى هذا لجأ إلى ساسة من اليسار واليمين التقليدي والوسط، وكلّف لرئاسة الحكومة شاباً ذا ماض اشتراكي هو غابرييل أتال، ظنّا منه في أن ذلك سوف يُحدث صدمة إيجابية لدى أوساط شبابية ويخلط الأوراق السياسية، ولكنه لم ينجح، فعاد إلى اليمين التقليدي، وأسند المهمة للسياسي المعروف وزير الخارجية الأسبق ميشيل بارنييه، الذي لم تصمد حكومته أكثر من ثلاثة أشهر، ومن بعد ذلك، استنجد بزعيم الوسط فرانسوا بايرو، ولم تدم حكومته أكثر من أربعة أشهر. ويجد الرئيس نفسه اليوم أمام الواقع نفسه، ولم يخرج من عنق الزجاجة. انتخابات 2027 الرئاسية ستكون أم المعارك بين اليمين واليسار احتمال استقالة ماكرون يبدو أحد الحلول، ولكنه يعاند ذلك، ويرفض الخضوع لابتزاز القوى السياسية، ويعتبر أن من حقّه إكمال ولايته الثانية، وصرح في أكثر من مرة أنه ليس المتسبب بالأزمة، بل إنها مختلقة من طرف القوى المتصارعة التي تستغل وضعه من أجل إيصال أحد مرشحيها إلى الرئاسة. ويعارض ماكرون انتخاب رئيس يميني أو يساري صرف، ويرى أن ذلك سوف يضع فرنسا أمام نزاع أهلي حاد، والأفضل هو انتخاب رئيس يستطيع أن يلعب دور الحكم. وفي حالة استقالة ماكرون أو عدمها، فإن الانتخابات الرئاسية المقبلة، سواء كانت مبكرة أو جرت في موعدها عام 2027، ستكون أم المعارك الانتخابية بين اليمين واليسار. ويقدم روتايو نفسه مرشحاً عن اليمين المتطرف بعد تراجع حظوظ مارين لوبان (إدانتها ومنعها من الترشح لمنصب رسمي خمس سنوات)، ورصيده قائم على قراراته الخاصة بالهجرة والأجانب، فهو يفتخر بأنه نجح في تحقيق نسبة منخفضة من عدد المهاجرين الذين تمّت تسوية وضعيتهم القانونية في فرنسا، بواقع أقل من 38%، عكس بقية الدول الأوروبية التي تقوم بتسوية نسب أعلى من فرنسا، بل يصر على أن ذلك يعتبر إنجازاً. وبناء على ذلك، بدأ الشحن الإعلامي اليميني من أجل دعمه باعتباره المرشح القادر على إحداث القطيعة مع الماكرونية، غير أن الأمور لا تبدو بالسهولة التي يحاول اليمين تصويرها. يواجه روتايو زعيم اليسار الراديكالي جان لوك ميلانشون. وفي حين يشكل تكتل اليسار (أربعة أحزاب رئيسية وأحزاب يسارية أخرى صغيرة) أكبر قوة في البرلمان، فإن بعض أطرافه قابلة للاستمالة، وخصوصاً "الاشتراكي" (69 نائباً) الذي يأتي في المرتبة الثانية بعدد النواب بعد "فرنسا الأبية" (71)، وهو يمتلك نزوعاً نحو الاستقلالية، وتراوده أحلام استعادة وزنه السابق ودوره القيادي القديم، ولكنه في كل حال لا يستطيع أن يتجاوز ميلانشون، وهو سيقف إلى جانبه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، حيث يعد المنافس الأساسي على المنصب بفضل ما بات يمثله لدى الرأي العام الفرنسي باعتباره مدافعاً عن حقوق الشرائح الاجتماعية الهشّة والفئات الشعبية والعمال وصغار الموظفين، بالإضافة إلى المهاجرين الذي يتعرضون لحملة عنصرية شرسة.  

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية