
عربي
ليس الجدل حول هوية لبنان جديداً؛ فبين من يراه عربياً في لغته وانتمائه، ومن يراه ابناً للفينيقيين وثقافتهم المنفتحة على البحر المتوسط، ظلّ السؤال يتردّد: هل تأثّر الأدب اللبناني بهذه الازدواجية؟ في اللغة تحديداً يظهر هذا التوتر جلياً بين فصحى تحاول الانتماء إلى فضاء عربي واسع، ولهجة يومية مشبعة بالفرنسية والإنكليزية ونبرات محلية متعدّدة. هذا المزيج جعل الرواية اللبنانية تختلف عن مثيلاتها العربية، لا ضعفاً في اللغة كما يُقال أحياناً، بل خصوصية في السرد.
على مستوى السرد، يُعتبر الروائي رشيد الضعيف أحد أبرز من تجسّدت في أعمالهم هذه الازدواجية اللغوية والفكرية، فهو كاتب لبناني تُرجمت أعماله إلى أكثر من أربع عشرة لغة، إلا أن أهم ما يميزه هو وعيه العميق بمسألة اللغة في الكتابة. يقول الضعيف إنه يكتب "روايات دنيا" و"روايات فصحى". الرواية "الدنيا" كما يسمّيها، هي تلك التي تنزل إلى الواقع بلغته العارية، وتكشف العقد والرغبات والمكبوتات من دون أقنعة، أما "الفصحى" فهي الرواية التي تتعامل مع اللغة بصفتها أداة فنية سامية، لكنها في الوقت نفسه قد تبتعد عن هموم الناس الحقيقية. بهذا المعنى، يجعل الضعيف من اللغة مقياساً للفكر، ومن الرواية مرآةً للواقع النفسي والاجتماعي في لبنان.
ولعلّ من أبرز ما كتبه في هذا الاتجاه رواية "تصطفل ميريل ستريب" (رياض الريس للكتب والنشر، 2001)، التي أثارت جدلاً واسعاً منذ صدورها. في هذه الرواية يسلّط الضوء على العلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمع اللبناني، من خلال حكاية رجل محافظ يتزوج امرأة متحررة تصدمه بسلوكها وجرأتها. الرواية تُعرّي هشاشة الذكورة في مجتمع متذبذب بين التقليد والحداثة، وتُظهر كيف يمكن للغة أن تكشف عمق الانقسام الداخلي في المجتمع اللبناني. ليست مصادفة أن تتحول الرواية لاحقاً إلى مسرحية من إخراج نضال الأشقر، لأن حوارها اليومي البسيط ينطوي على طاقة درامية عالية، ولأنها تمثل بصدق تلك اللغة اللبنانية الوسطى التي تمزج الفصحى بالمحكية.
يستخدم في روايته الأخيرة لغة تقريرية مشبعة بالمجاز
أما روايته الأحدث "ما رأت زينة وما لم ترَ" (دار الساقي، 2024)، فهي تمثل تجربة مختلفة على مستوى اللغة والبناء. بدأ الضعيف كتابة سيناريو سينمائي حول انفجار مرفأ بيروت عام 2020، ثم اضطر، بسبب الظروف الاقتصادية وصعوبة الإنتاج، إلى تحويل النص إلى رواية. لذلك حافظت الرواية على بنية المشهد السينمائي، فكل فصل فيها يُقرأ كصورة متحركة، بكاميرا راوٍ عليم تلتقط المأساة من زوايا مختلفة. تدور القصة حول زينة، امرأة تفقد زوجها في البحر وتعمل خادمة لدى أسرة بيروتية، حتى يأتي يوم الانفجار الذي يقلب حياتها رأساً على عقب. يستخدم الضعيف لغة تقريرية مشبعة بالمجاز، تجمع بين الدقة البصرية والحس الإنساني، لتصوير فداحة الحدث، ليس كارثة مادية فقط، بل زلزال معنوي يصيب المدينة وسكانها. تتخلل الرواية مشاهد غرائبية وساخرة في آن، تكشف عبث الواقع اللبناني الذي يعيش بين الشفافية المعلنة والفساد العميق، بين الزجاج الذي يسمح بالرؤية، والزجاج نفسه الذي يتهشّم فوق الرؤوس عند الانفجار.
يكتب رشيد الضعيف بلغة ليست للزينة أو الترف، بل يشرح عنها قائلاً: "أنا أسعى لأن أكتب بأسلوب صحيح، أي مناسب، وأن أتحاشى ما استطعت أن يكون أسلوبي جميلاً. أعتبر أن الأسلوب الجميل في العربية ينتمي إلى المطلق، بينما الأسلوب الصحيح المناسب ينتمي إلى التاريخ. وأنا هواي التاريخ لا المطلق".
تظهر هذه القناعة جلية حتى في اختياره لعناوين رواياته التي تنتمي إلى لغة الحياة اليومية، مثل "إنسي السيارة" (2002)، و"أوكي مع السلامة" (2008)، و"تبليط البحر" (2011)، و"خطأ غير مقصود" (2019)، وهي عناوين تُحاكي كلام الناس وتعيد للغة الروائية نبضها الواقعي، حيث تتحول اللغة عند الضعيف إلى سجلّ اجتماعي وثقافي يعكس المزاج اللبناني في تقلبه بين المحلي والعالمي، بين البساطة والعُمق، وبين الفصحى واللهجة المحكية.
في كلا العملين، تتجلى علاقة رشيد الضعيف باللغة: فهي أداة لاختبار الذات اللبنانية في لحظة تمزقها. هو يكتب بلغة تتأرجح بين الفصحى واللهجة اللبنانية، بين الانفتاح على الغرب والرغبة في البقاء ضمن النسيج العربي، تماماً كما يتأرجح لبنان نفسه بين هوياته المتعددة.

أخبار ذات صلة.

هزات عنيفة تلاحق اتفاق غزة
الشرق الأوسط
منذ 27 دقيقة