الجبهة الإسرائيلية الثامنة: غسل رقمي للإبادة
عربي
منذ 5 أيام
مشاركة
أطلقت الحكومة الإسرائيلية خلال العامين الأخيرين سلسلة من الحملات الرقمية غير المسبوقة، تهدف إلى إعادة تشكيل الخطاب العالمي حول حرب غزة عبر الذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل الاجتماعي. فقد خصصت وزارة الخارجية أكثر من 545 مليون شيكل (145 مليون دولار) لتوظيف شركات أميركية ومؤثرين ومنصات ذكاء اصطناعي مثل ChatGPT، في ما تصفه بـ"الجبهة الثامنة" لحروبها، أو "معركة الحقيقة". تسعى هذه الجبهة إلى إسكات الروايات المقاومة، وتوجيه الرأي العام الغربي، خصوصاً بين جيل الشباب الأميركي بشكل خاص أي الجيل زد، وتبييض صورة إسرائيل في الفضاء الرقمي العالمي. الحرب على السرديات تعود جذور هذه الاستراتيجية إلى ما بعد عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حين فعّلت إسرائيل ما تسميه "القبة الحديدية الرقمية"، وهي منظومة مزدوجة تعمل أولاً عبر حملات تبليغ جماعية تشنّها مجموعات من المتطوعين لإزالة أي محتوى ينتقد إسرائيل على "تيك توك" و"إنستغرام" و"إكس"، وثانياً عبر خوارزميات ذكاء اصطناعي تراقب أكثر من 200 ألف موقع لرصد الروايات المعارضة وتغمر مستخدميها بإعلانات مضادة. خلال الأشهر الستة الأولى من الحرب، حُذف أكثر من 3.1 ملايين فيديو و140 ألف بث مباشر من "تيك توك"، فيما أرسلت وحدة الإنترنت التابعة للنائب العام الإسرائيلي نحو 9500 طلب إزالة استجابت لها "ميتا" بنسبة 94%. تسعى هذه المنظومة إلى خنق الأصوات الفلسطينية أولاً، ثم ملء الفراغ برواية مصمّمة مسبقاً: غزة بلا أنقاض، ولا جوع، ولا جرائم. تقرير لهيئة الإذاعة الإسبانية العامة (RTVE) كشف أن الحكومة الإسرائيلية أنفقت نحو 50 مليون دولار على إعلانات رقمية عبر "غوغل" و"إكس" وشبكات فرنسية ــ إسرائيلية، في محاولة لتصوير "حياة طبيعية" في غزة خلال القصف. بين يناير/ كانون الثاني وسبتمبر/أيلول 2025، بثّت إسرائيل أكثر من أربعة آلاف إعلان، نصفها موجّه إلى جمهور دولي. هندسة الذاكرة ومسح الوجع لم تتوقف الحرب الرقمية عند حذف المنشورات، بل تطورت إلى إعادة هندسة ذاكرة الإنترنت. في مايو/أيار 2024، أعلنت شركة "أوبن إيه آي" تفكيك خمس شبكات تأثير سرّية، بينها واحدة تديرها شركة إسرائيلية تُدعى STOIC، استخدمت أدوات الذكاء الاصطناعي لإنتاج محتوى مؤيد لإسرائيل ومناهض لحماس عبر حسابات وهمية. وفي موازاة ذلك، كشفت صحيفة نيويورك تايمز أن الحكومة الإسرائيلية استخدمت نحو 600 حساب مزيف للتأثير على 128 نائباً أميركياً، عبر أكثر من ألفي تعليق أسبوعياً تدافع عن إسرائيل وتهاجم وكالة أونروا. وقالت المتحدثة باسم الوكالة، جولييت توما في تصريح عام 2024: "هذه الإعلانات مدمّرة للناس. يجب أن تتوقف، ويجب محاسبة المسؤولين عنها". بهذه الآليات، لا تكتفي إسرائيل بحذف الروايات المخالفة، بل تكتب روايتها فورياً على أنقاضها، في عملية "غسل رقمي" للجرائم، تُنتج نسخة جديدة من الذاكرة العامة تُغذّى بها المنصات العالمية لحظة بلحظة. نصف مليار شيكل للدعاية في يونيو/حزيران 2025، كشفت وثائق قُدّمت إلى وزارة العدل الأميركية تفاصيل واحدة من أكبر حملات الدبلوماسية العامة الإسرائيلية في الولايات المتحدة. فقد أظهرت سجلات "قانون تسجيل الوكلاء الأجانب" (FARA) أن وزارة الخارجية الإسرائيلية تعاقدت مع شركة Clock Tower الأميركية، التي يرأسها مدير حملة دونالد ترامب السابق براد بارسكال، لتنسيق حملة رقمية ضخمة تستهدف جيل الشباب عبر منصات الفيديو القصير. الهدف المعلن في العقد: خمسون مليون مشاهدة شهرية. غير أن الجانب الأكثر ابتكاراً وإثارة للجدل في العقد جهود "إعادة توجيه استجابات الذكاء الاصطناعي". فالشركة، وفق الوثائق، مكلفة ببناء مواقع ومحتوى "لتوفير نتائج مهيكلة في محادثات GPT"، أي التأثير على البيانات التي تُستخدم لتدريب أنظمة مثل ChatGPT وGrok وGemini، بهدف ضبط الطريقة التي تُقدَّم بها القضايا الإسرائيلية في الإجابات الآلية. يصف الخبراء هذا المجال الناشئ باسم "تحسين محركات التوليد" (GEO)، أي التلاعب بمصادر المعرفة التي يعتمد عليها الذكاء الاصطناعي، على غرار ما يفعله تحسين محركات البحث (SEO) في الإنترنت التقليدي. وقال غادي إفرون، الرئيس التنفيذي لشركة الأمن السيبراني نوستِك: "تماماً كما تحدد خرائط الـSEO المواقع التي تؤثر في نتائج البحث، تحدد خرائط الـGEO المصادر التي تؤثر في ردود الذكاء الاصطناعي. إنه مجال جديد كلياً". المؤثرون: جنود الدبلوماسية الجديدة بالتوازي، موّلت الحكومة الإسرائيلية مشروعاً آخر تحت اسم "مشروع إستير" لتجنيد مؤثرين أميركيين يضخّون محتوى مؤيداً لإسرائيل عبر "تيك توك" و"إنستغرام" و"يوتيوب". تُدار الحملة من خلال شركة Bridges Partners LLC المسجّلة في ولاية ديلاوير على يد استراتيجيين إسرائيليين، وتسمح عقودها بمدفوعات تصل إلى 900 ألف دولار للمؤثر الواحد، وبميزانية شهرية تبلغ 250 ألف دولار. يُلزم العقد المؤثرين بنشر 25 إلى 30 منشوراً شهرياً، بينما يشمل الاتفاق تكاليف الإنتاج والتحليل القانوني والدعم الإعلامي. في سبتمبر/أيلول 2025، التقى نتنياهو مجموعة من هؤلاء المؤثرين في القنصلية الإسرائيلية في نيويورك، بينهم ليزي سافيتسكي وآري آكرمان وزاك سيج فوكس. خلال اللقاء، قال نتنياهو: "علينا أن نقاتل. كيف نقاتل؟ بالمؤثرين. السلاح الأهم اليوم هو وسائل التواصل الاجتماعي". كما شبّه ثقافة الصحوة (woke culture) بالنازية، ودعا إلى الاستثمار في "تيك توك”" والتعاون مع إيلون ماسك لضمان "النصر في أهم ساحة". من الدبلوماسية إلى استعمار رقمي ما يجري اليوم هو تحول جذري في مفهوم "الهاسبارا"، من الترويج الإعلامي إلى الهندسة التقنية للوعي العالمي. فالدعاية لم تعد تعتمد على المتحدث الرسمي أو المؤتمر الصحافي، بل على خوارزمية تتعلم وتتكيف وتبثّ سردية جاهزة للمستخدمين حول العالم. إنها دبلوماسية تعمل بالذكاء الاصطناعي، لا بالدبلوماسيين. تجمع هذه المنظومة بين البلاغات الإلكترونية التي تُسكت الأصوات، والإعلانات المموّلة التي تشوّه الواقع، والمحتوى المصمم لتغذية الذكاء الاصطناعي نفسه بالرواية الرسمية. بهذا، لا تسيطر إسرائيل على مسار الأخبار فحسب، بل على البنية المعلوماتية التي تُنتج الأخبار. الحقيقة منتجاً تقنياً تكمن خطورة هذه الممارسات في قابلية هذا النموذج للتصدير. فما دامت دولة تواجه اتهامات بالإبادة قادرة على إعادة كتابة سجلها في الزمن الحقيقي، فكل من يملك المال والتكنولوجيا يمكنه أن يفعل الأمر نفسه. بهذا المعنى، تصبح الحقيقة نفسها منتجاً تقنياً، تصوغه الشركات والخوارزميات، وتُباع نسخ منه بحسب ميزانيات الدول. وحين تتحوّل الذاكرة الجماعية إلى بيانات يمكن تعديلها، تصبح الحرب على الوعي أكثر فتكاً من أي حرب عسكرية. في الجبهة الثامنة التي أعلنها نتنياهو، لا تُطلق الصواريخ، بل تُرسل الإشعارات. ولا يُقصف الناس في بيوتهم، بل في عقولهم.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية