فداحة الجريمة وتغييب الشهود
عربي
منذ 6 أيام
مشاركة
كانت عودة مئات الآلاف من النازحين إلى مدينة غزة التي بثتها على الهواء مباشرة عشرات القنوات الفضائية حدثاً بحد ذاته، فأنت لا ترى مشهداً "قيامياً" كهذا كل يوم. إنه أشبه بخيال النبوءات الكبرى: إلياذة معاصرة تبحث عن هوميروس ليكتبها، وليس ثمة من يكتب في أيامنا هذه ويؤرّخ أكثر بل أسرع من الإعلام، مع بعض التمهّل هنا، والتأشير إلى أنه (الإعلام) قد يكون مقيّداً أحياناً، وأخرى محظوراً أو ممنوعاً من التغطية، ما يجعل تأريخه ناقصاً ومشوّهاً. في النشرات الرئيسية لقناة "سي أن أن" الأميركية عن حدث غزة يوم الجمعة الماضي على الأقل، تابعنا صوراً من غزة لمئات آلاف الغزيين وهم يعودون إلى بيوتهم المدمرة راجلين، محمّلين بما تيسّر من أغراض منزلية وسواها، ولدبابات إسرائيلية تنسحب، بينما كانت نوافذ المراسلين الذين يفترض أن يواكبوا الحدث نفسه من تل أبيب وواشنطن لا من غزة نفسها. هل تُلام القناة الأميركية أو سواها على ذلك؟ ليس هذا السؤال هنا فهي مضطرة حتى لو اختلفنا مع خطها التحريري، فأنت لا تستطيع إهمال الخبر إذا كان كبيراً لأنك ممنوع من تغطيته في ميدانه وعلى أرضه، فتضطر والحال هذه إلى الاستعانة بصور وكالات الأنباء الكبرى، وبمراسليك في أقرب منطقة من موقع الحدث. لكنّ هذا يظل تحايلاً، والأسوأ أنه قد يقلب رسالة الخبر رأساً على عقب، خاصة أن دور المراسلين أو شهود العيان على الأرض قد يكون حاسماً في صراعات بالغة التعقيد كالتي تحدث في منطقتنا.  وللتوضيح، ففي عدوان سابق على قطاع غزة، كان دور مراسل "سي أن أن" بالغ الأهمية فيما يتعلق بادّعاءات إسرائيل أنها لم تقصف منطقة مدنية، وآنذاك ظهر المراسل على الشاشة وهو يوضح للمشاهدين الجهة والزاوية التي جاءت منها القذائف التي شاهدها بأم عينيه، وهي من طرف الجيش الإسرائيلي وليس من جهة مسلحي "حماس" كما ادّعت إسرائيل في حينه. الصورة لا تكفي، على خلاف ما يشيع منظرون في الإعلام المرئي يظنون أن الصراعات مثل قطعة من الزبدة التي يسهل مسحها على توست ساخن، فخلف الصورة، خاصة في الصراعات بالغة التعقيد، ثمة ما يحتاج إلى شرح وتفصيل وتوضيح، وأحياناً من يقرأ لا وعي الصورة نفسها، أي ماضيها وما تخفيه. منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 منعت إسرائيل كل وسائل الإعلام من دخول غزة تماماً. كانت تعرف ماذا تفعل، فقد عزلت مسرح الجريمة للاستفراد بالضحية ثم بدأت بقتل الشهود، ففي اليوم الأول لعدوانها قتلت ثلاثة صحافيين غزّيين، وهذا في حد ذاته صادم في تاريخ الصراعات في العالم. ومع وقف إطلاق النار بعد أزيد من عامين وصل عدد الشهود القتلى إلى 254 شهيداً. وخلال الأشهر الأولى للعدوان، أو على الأقل خلال الشهرين الأولين كان قتل الشهود يومياً، بمعدل صحافي في اليوم، يرتفع أو ينخفض، لتصبح المقتلة في صفوف الصحافيين هي الكبرى على الإطلاق في كل الصراعات منذ أول صدور لصحيفة وبث أول نشرة أخبار مسموعة أو مصورة في العالم. ولم يبق أحد إلا طالب بالسماح للإعلام بدخول قطاع غزة، ومن هؤلاء دونالد ترامب نفسه وليس فقط منظمات من مثل "مراسلون بلا حدود" أو أخرى إقليمية، ولكن إسرائيل أرادته عدواناً بلا شهود، لا لعزل الضحية وحسب بل الجمهور المستهدف الذي يمكن أن يؤثر ويغيّر، ولكنها لم تنجح، فصحيح أن وسائل الإعلام الكبرى تظل المصدر الحقيقي الموثوق به لنقل الأخبار، إلا أن الثورة المعلوماتية التي أحدثتها وسائل التواصل الاجتماعي، تكفّلت بنقل الأجزاء المؤثرة من الصورة التي أريد لها أن تُغيّب، وشهدت هذه الوسائل نقل مئات الآلاف من مقاطع القتل والتدمير وجرائم الحرب في قطاع غزة، وأحدثت انقلاباً في الرأي العالمي الذي لم تستطع وسائل الإعلام "التقليدية" نقل الصورة إليه، إما لأنها مُنعت أو لانحيازها أصلاً. لا يحتاج الغزيّون الآن إلى دخول المساعدات الإنسانية وحسب، بل وبالقدر نفسه عودة وسائل الإعلام الكبرى إلى قطاع غزة أيضاً، ليعرف العالم أي جريمة لا يمكن تخيّلها ارتُكبت هناك.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية