عربي
قبل نحو عامين كتبت هنا عن دروس طوفان الأقصى، ووقفت على خمسة معانٍ أولية واستنتاجات ابتدائية. ورغم أن الزمن كان لا يزال مبكراً للخلاصات النهائية، فإن ما وقفنا عليه آنذاك لم يتغير كثيراً طالما نظرنا إلى الحدث بمنظور استراتيجي بعيد المدى، لا من منظوره الظاهري المرحلي.
أعلم أن كثيرين أبدوا تحفظهم على ما جرى، ورأوا فيه خاتمةً لا تسرّ: دمارا كاملا لغزة، وعشرات الآلاف من الشهداء، وتبدد قيادات المقاومة، وتفكيك جبهة الإسناد بشكل حادّ، وتفتت القوى الداعمة، والقبول بشروط قد تفرض على ما تبقّى من الساحة الفلسطينية مجرّد محاولة لإيقاف آلة الحرب.
ويزيد هؤلاء على ذلك اعتبار أن حرب 7 أكتوبر انطلقت من الطرف المقاوم ذاته، وهو استنتاج منهجي يُغفل أن العدو لم يكن سَمحاً أو متوقفاً عن قضم الأرض وتدمير الناس، وأن منظوره عملياتي متواصل يقوم على خطواتٍ وتوقيتاتٍ تعكس عقيدة وسلوكاً منهجيين.
السؤال اليوم: والطوفان يوشك على التوقف بعد سنتين من الحرب المتواصلة، هل نشهد انحساراً كما يبدو ظاهرياً أم استمراراً للقضية وقواها؟
من منظور استراتيجي، أفرزت الحرب مكاسب وخسائر لا يمكن إنكارها، ولو صعُب على كثيرين تمييز جوانبها. فالمكاسب ليست دائماً ملموسة أو فورية؛ وهي لا تقف في مواجهة مشاهد الدمار في غزة. أما الخسائر، فلمن يتطلع بعينٍ ضيقة فتبدو هي الغالبة والمؤثرة على المشهد.
لا بد من التأكيد أن طوفان الأقصى فعل استراتيجي هزّ الخرائط: أعاد توهج القضية الفلسطينية بصيغتها المقاومة، غيّر معادلات قوة، حشد دعماً عالمياً غير مسبوق، وكشف عن الوجه التوحشي للاحتلال وحياد أو انحياز القوى الكبرى وازدواجية الإعلام. وأظهر أيضاً قدرة حركة حماس على صناعة صورة الفرد المسلم المقاوم المنضبط، المتحرر من قيود دنيوية في سياق المواجهة.
لا بد من التأكيد أن طوفان الأقصى فعل استراتيجي هزّ الخرائط: أعاد توهج القضية الفلسطينية بصيغتها المقاومة
في المقابل، لا يمكن تجاهل الخسائر البشرية والمادية: مشاهد الدمار، وغياب قياداتٍ شجاعة، وتهديد الوجود السياسي، وانتعاش تيارات التطبيع في أوساطٍ رسميةٍ عربيةٍ مترددة، كلها وقائع يجب أن تُسجل وتؤخذ بعين الاعتبار.
ونعود للسؤال: هل مقاييس النصر، كما علمنا الإسلام، مادية فحسب؟ أليس طوفان الشهداء عربوناً لنصرٍ قادم؟ وهل لا يمكن أن يكون التمكن المؤقت للعدو، الناتج عن تطورات تلك الحرب، مقدمةً لارتفاعٍ يسبق انهياراً، لا سيما وأن المشهد لم يكتمل بعد؟ الكرة لا تزال في ملعب المقاومة لتديرها سياسياً بعد خوض أعتى مواجهة عسكرية في العصر الحديث.
مشكلتنا أننا نُحاكم التاريخ بتوقيتاتنا البشرية المستعجلة، ونغالي في استعجال النتائج. التحولات الكبرى، ومنها قضية فلسطين، قد تتطلب عشرات الطوفانات لتكتمل مهمتها، وقد لا يتم ذلك إلا بعد بلوغ المجتمع المسلم جاهزيته النفسية والتربوية والسياسية. طوفان الأقصى أظهر أن الطريق لا يزال طويلاً: معاني الالتزام لم تستقر في النفوس بما يكفي، وتراجعت همم كثيرين عن دعم مقاطعات بسيطة، فكيف بالوقوف في ساحات المواجهة؟ كما لم يَكتمل بعد التأهيل النظري والعلمي لاستيعاب فكرة اتحادٍ بين الدول يهدف إلى التحرير، إذ تُهيمن على كثير من القوى خصوصيات سياسية وخشية من المبادرة قبل التمكن والثقة بالمقدرات.
ومن المآخذ الجوهرية أيضاً تأثير هذه القضايا داخل التيار الإسلامي نفسه: ثمة اندفاع عاطفي غلب التقديرات الواقعية لدى بعض من يُعرفون بالرشد، فظنّوا أن التحرير صار قاب قوسين أو أدنى، فيما غابت عنهم التعقيدات الدولية. وآخرون وظفوا الآيات والأحاديث خارج سياقها العلمي لأغراضٍ دعائية، بينما بقي علماء ثابتون ذوو بصيرة يقاومون هذا الانزلاق بالتحليل الدقيق والقراءة المتأصلة.
لا نحقر شجاعة الأبطال ولا نبخس حقّ المساندين، كما لا يليق بالبعيدين عن نيران الحرب ونكبات الجوع والنكبات أن يوجهوا نقداً بارداً لا يعكس حجم المأساة. ومع ذلك، لا بد من التعامل مع الطوفان كمحطة لها ما بعدها، وأن يؤمن الجميع بواجبه في البناء والتأصيل والعمل وفق مقتضى المرحلة.
طوفان الأقصى كان وسيبقى مفصلاً تاريخياً ومرحلة أساسية كتبت صفحة جديدة في سجل القضية الفلسطينية، وقدّمت للأجيال ملحمة ودروساً واضحة. هي خطوة قطعت نحو معركة تحرير أوسع وشاملة لا يعلم توقيتَها إلا الله، ولكنها قربّت المسافة ووضعت علاماتٍ في مسار النضال.
في الختام: مهما اختلفت الاجتهادات والتقييمات، فإن اليقين بنصر الله أصلٌ وواجب لا ينبغي أن يخالطه شك. هذه رسالة القرآن والسنة وسيرة السلف والمصلحين. التضحيات عظيمة، والفناء أحياناً ثمنُ بقاء أمةٍ تكتب بعد طول صبرٍ قصة نصرٍ مجيد. وما ذلك على الله بعزيز.