
عربي
لم تعد مشاهد أطفال ينفقون على عائلاتهم غريبة في العراق، إذ يفرض فقدان المعيل، وفاة أو غياباً أو عجزاً، على آلاف الأطفال العراقيين أعباء مبكّرة. وتؤكد اللجنة العراقية لحقوق الإنسان وجود خمسة ملايين طفل يتيم في العراق، وأن نسبة كبيرة من هذه الفئة تضطر إلى تولي الأعباء الأسرية عبر الانخراط في سوق العمل.
داخل أحد أزقة العاصمة بغداد الشعبية، يبيع الطفل حيدر (13 سنة) الخبز في الشارع، ويقول لـ"العربي الجديد": "توفي أبي قبل عامين، وبعدها أصبحت المسؤول عن مصاريف البيت، فأمي مريضة، ولا تستطيع العمل، وأحياناً أحلم بالذهاب إلى المدرسة مثل بقية أصدقائي، لكن العائلة تحتاجني أكثر". تتكرر قصة حيدر مع مئات الأطفال في مناطق أخرى، إذ يضطرون إلى العمل في الأسواق أو الورش الصغيرة، وأعمارهم تتراوح بين العاشرة والرابعة عشرة، وغالبيتهم يُضطرون إلى العمل لساعات طويلة. من بين هؤلاء الطفل صلاح (12 سنة)، الذي يعمل في سوق الشورجة ببغداد، منذ وفاة أبيه في تفجير.
وبحسب المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق، فإنّ البلاد تحتل المرتبة الرابعة عربياً في حجم عمالة الأطفال، وإنّ ما يقارب مليون طفل منخرطون في سوق العمل. ويرى الباحث الاجتماعي علي السامرائي أن "المشكلة لا تتوقف عند الفقر، بل تمتد إلى غياب الدعم النفسي للأطفال الذين يُجبرون على لعب دور الكبار، ويُحرمون من التعليم، ما يترك ندوباً نفسية طويلة الأمد، ويخلق جيلاً محبطاً أو مشوّهاً اجتماعياً". ويوضح السامرائي لـ"العربي الجديد": "تحتاج الظاهرة إلى تدخل يشمل تعديل القوانين، وتوفير الدعم الاجتماعي، وحملات التوعية. هؤلاء الأطفال يعانون صدمات نفسية مزدوجة، ما بين فقدان المعيل واضطرارهم للعب دور البالغين قبل الأوان، ما يترك ندوباً نفسية تؤثر على الاندماج الاجتماعي".
بدوره، يقول مدير قسم تفتيش العمل بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، زياد محمود حسين، لـ"العربي الجديد": "تواصل الوزارة العمل عبر فرق التفتيش تنفيذ حملات ميدانية لرصد ومتابعة أرباب العمل، والتأكد من عدم تشغيل أطفال دون السنّ القانوني، وفي حال ثبوت مخالفة، تجري محاسبة أصحاب العمل وفقاً للقانون، بهدف الحدّ من عمالة الأطفال. نضطلع أيضاً بتوزيع استمارات على العوائل التي يعمل أطفالها بعد أن تركوا المدارس، لتتمّ مخاطبة وزارة التربية بشأن إعادتهم إلى التعليم، وبالتنسيق مع الجهات المعنية ببرامج الحماية الاجتماعية، التي توفر الدعم اللازم لتلك الأسر".
ويشير حسين إلى أن "الوزارة مستمرة في جهود حماية الأطفال من خلال تنظيم ورش ودورات توعية للأهالي والمجتمعات حول مخاطر عمل الأطفال، وأهمية التعليم، والاستجابة التي تلاحظها فرق التفتيش من الأهالي مشجعة، إذ يُبدي كثيرون رغبة حقيقية في مساعدة أبنائهم على العودة إلى المدارس. الأطفال الذين يجري رصدهم من خلال لجنة مكافحة عمالة الأطفال تتقلص أعدادهم، ففي عام 2023 سجلت اللجنة 55 طفلاً، وفي عام 2024 سجلت 42 طفلاً، وفي العام الحالي سجلت اللجنة 23 طفلاً فقط حتى الآن".
ويقول المسؤول في مديرية حماية الأسرة والطفل من العنف الأسري بوزارة الداخلية، المقدم مصطفى إبراهيم الخالدي، إن "عمل الأطفال نتيجة لظروف اجتماعية واقتصادية صعبة، من بينها الفقر، أو تفكك الأسرة، ولا يمكن اعتباره جريمة يُعاقب عليها الطفل. عند عثور فرقنا على أطفال يعملون، أو يتسوّلون، يُحال الطفل إلى قسم حماية الأسرة والطفل، ويجري التنسيق مع وزارة العمل والشؤون الاجتماعية لإدخالهم في برامج الرعاية، أو إعادتهم إلى أسرهم بينما يُحاسب البالغون المسؤولون عن تشغيلهم، أو استغلالهم، سواء كانوا أرباب عمل أو أولياء أمور أو عصابات".
ويضيف الخالدي: "نتدخل في الحالات التي يُستغل فيها الطفل في التسوّل أو العمل الشاق، ويُعتبر ذلك مخالفاً للقانون، ويجري إحالة المستغلين إلى القضاء، بينما يُعامل الطفل بوصفه ضحيةً، كما نتدخل عند إجبار أطفال على العمل أو التسوّل من أسرهم، ويُعد ذلك نوعاً من العنف الأسري، وقد خضع بعض الآباء لإجراءات قانونية، وكذلك في حالة وجود الطفل في بيئة خطرة، أو بيئة تعرضه للعنف، إذ يجري إيواء الأطفال مؤقتاً بالتنسيق مع مؤسّسات الرعاية التابعة لوزارة العمل. جميع الإجراءات المتّخذة تهدف إلى حماية الأطفال، وضمان حقوقهم، ومحاسبة المسؤولين عن استغلالهم، وإعادتهم إلى بيئتهم الأسرية والمدرسية على نحوٍ آمن".
من جانبه، يقول الخبير القانوني علي الربيعي لـ"العربي الجديد"، إنّ "الإطار القانوني يوفر أساساً لحماية الطفل من الاستغلال، لكن التطبيق العملي لا يزال ضعيفاً، ومقسماً بين أكثر من جهة حكومية. قانون العمل العراقي يحدّد الحدّ الأدنى لسنّ العمل بـ 15 سنة، ويحظر تشغيل من هم دون ذلك العمر، كما ينصّ على أن يكون تشغيل اليافعين (15– 18 سنة) ضمن ظروف عمل محدّدة تراعي الجوانب الصحية والتعليمية، لكن المشكلة تكمن في غياب الرقابة الفعلية على الورش والأسواق والمصانع الصغيرة، وهي البيئات الأكثر تشغيلاً للأطفال".
ويشير الربيعي إلى أن "العراق رغم توقيعه على اتفاقيتَي منظمة العمل الدولية رقم 138 و182 بشأن الحد الأدنى لسن العمل وأسوأ أشكال عمالة الأطفال، ما زال يفتقر إلى منظومة حماية متكاملة تُلزم بتبادل البيانات بين وزارات العمل والداخلية والتربية والشؤون الاجتماعية، لمعالجة الأسباب الجذرية للظاهرة، والجهات الأمنية في بعض الأحيان تتعامل مع الأطفال العاملين أو أطفال الشوارع بوصفهم مخالفين وليس ضحايا يحتاجون إلى حماية، وهذا خطأ قانوني وإنساني جسيم".
ويرى أن "الحل يتطلب تفعيل نظام الإحالة القانونية للأطفال العاملين من الجهات الأمنية إلى دوائر الرعاية الاجتماعية بدلاً من احتجازهم، مع إنشاء محاكم مختصة بقضايا الطفل لتسريع البتّ في الملفات المتعلقة بالاستغلال أو الإهمال. وتفعيل قانون العمل وحده لا يكفي، بل يجب أن يرافقه إصلاح في بنية الحماية الاجتماعية والتعليمية عبر دعم الأسر الفقيرة، وتوسيع برامج الرعاية، فالفقر هو السبب الجذري الذي يدفع الأطفال إلى الشارع أو إلى سوق العمل".
