الصحة النفسية في الريف.. معاناة صامتة بين غياب الخدمات
تقارير وتحليلات
منذ 5 ساعات
مشاركة

تقرير: عبدالله قاسم – أسامة فرحان | ريف اليمن:

يجلس حميد محمد (22 عاما) قرب منزل طيني قديم في إحدى قرى محافظة حجة، يحدق في الفراغ بصمت طويل، كان حميد يوما شابا طموحا يساعد والده في الزراعة، لكن السنوات الأخيرة حملت له قلقا دائما وعزلة متزايدة. يقول شقيقه إسماعيل: “بدأ حميد يتغير بعد الحرب، صار يميل للوحدة وينام أياما دون كلام، وكلما حاولنا مساعدته يخاف ويغضب، كأنه يعيش في عالم آخر”.

حكاية حميد ليست استثناء، ففي الريف اليمني، تمتزج بساطة الحياة اليومية بقلق نفسي دفين لم يعد يخفى على أحد، فبين هموم المعيشة وضغوط الحرب والنزوح، يعيش آلاف اليمنيين في الأرياف معاناة نفسية صامتة لا تجد طريقا إلى العلاج، في ظل غياب شبه تام للخدمات النفسية المتخصصة.

ويمثل الريف اليمني بيئة فريدة، حيث تتشابك حياة الطبيعة والزراعة مع ضغوط اجتماعية واقتصادية متواصلة، ورغم هدوء الحياة الريفية وقوة الروابط الأسرية، يواجه سكانها تحديات نفسية عديدة غالبا ما تبقى خفية ولا تؤثر على الأفراد فقط، بل تمتد لتشمل الأسر والمجتمعات بأكملها.


   مواضيع مقترحة


وتعد الصحة النفسية التي يحتفل فيها في العاشر من أكتوبر كل عام، أساس التكيف مع الذات والمجتمع، غير أنها تواجه عوائق متزايدة أبرزها الفقر، الضغوط الاقتصادية، وتغير أنماط الحياة، ويشكل الاحتفال فرصة لتسليط الضوء على الوضع النفسي المتفاقم في اليمن، خصوصا في المناطق الريفية.

ملايين المصابين وخدمات غائبة

ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فإن واحدًا من كل أربعة يمنيين أي أكثر من 5.5 مليون شخص، يعاني من اضطرابات نفسية ويحتاج إلى رعاية طبية متخصصة، فيما لا يتجاوز عدد الأطباء النفسيين في البلاد 58 طبيبًا فقط، و120 أخصائيًّا نفسيًا على مستوى الجمهورية بأكملها.

يؤكد الدكتور علي راجح، استشاري ومعالج نفسي، أن الصحة النفسية ليست ترفا، بل شرط أساسي لتمكين الأفراد من المشاركة في التعليم والعمل وبناء مجتمعات مرنة، مؤكدا أن إدماج الصحة النفسية في برامج التنمية يحد من العنف والجريمة، يعزز الإنتاجية، ويعيد الثقة المجتمعية، خاصةً في البيئات الهشة.

تقرير الأمم المتحدة في اليمن (2023) أوضح أن نحو 7 ملايين شخص بحاجة إلى دعم نفسي واجتماعي، لكن فقط 120 ألفا لديهم وصول منتظم إلى هذه الخدمات، ويشير دليل جمعية الهلال الأحمر اليمني (2021) إلى أن نصف مرافق الرعاية الأولية مغلقة أو تعمل جزئيا، فيما تقتصر الخدمات غالبا على وصف الأدوية، من دون أي دعم نفسي أو اجتماعي، ما يزيد حالات الاكتئاب، إساءة استخدام العقاقير، ومحاولات الانتحار.

وكيل وزارة الصحة العامة والسكان المساعد لقطاع التخطيط، جلال باعوضه، قال إنه لا توجد إحصائيات محددة لعدد مراكز الصحة النفسية في أرياف اليمن، مشيرا إلى أن خدمات هذا النوع من الرعاية حاضرة جزئيا في بعض المناطق الريفية، عبر مشاريع تنفذها منظمات محلية ودولية تخصص جزءًا من برامجها للدعم النفسي”.

ويضيف باعوضه لـ “منصة ريف اليمن”، أن أسباب غياب المراكز تشمل الأوضاع السياسية الراهنة، تدهور التمويل الحكومي لقطاع الصحة، محدودية الكوادر الطبية، وعورة الطرق في الأرياف التي تعيق إيصال الخدمات، بالإضافة إلى ضعف الوعي المجتمعي ونظرة البعض لمراجعة مراكز الصحة النفسية بوصفها وصمة عار اجتماعية.

ويوضح أن ضعف الوعي المجتمعي يمثل بدوره سببًا آخر، إذ لا يزال الكثيرون ينظرون إلى مراجعة مراكز الصحة النفسية بوصفها وصمة عار اجتماعية، الأمر الذي يحدّ من الإقبال على مثل هذه الخدمات.

صدمات الحرب والنزوح

تقرير مشترك أصدره مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية بالتعاون مع جامعة كولومبيا كشف أن الحرب في اليمن خلفت آثارا نفسية واجتماعية مدمرة، من العنف والنزوح إلى الاختفاء القسري والغارات الجوية، إذ يحتاج أكثر من 20 مليون يمني إلى مساعدات إنسانية، فيما يعاني 17 مليونًا من انعدام الأمن الغذائي، بينهم 6.8 ملايين في حالة طوارئ غذائية.


“لا توجد إحصائيات محددة لعدد مراكز الصحة النفسية في الأرياف، وخدمات الصحة النفسية حاضرة جزئيا في بعض المناطق الريفية عبر مشاريع تنفذها منظمات محلية”.


وأشار التقرير إلى أن هذه الظروف أثرت بشدة على الصحة النفسية، مع ارتفاع معدلات الاكتئاب والقلق والانتحار، لا سيما بين الأطفال، حيث خرج أكثر من مليوني طفل من المدارس، ويعاني مئات الآلاف من سوء التغذية الحاد، وتجند نحو 1500 طفل قسريًا للقتال.

ويشير الدكتور رمزي الرظمي، طبيب عام في مستشفى ريفي بمحافظة حجة، إلى أن الريف اليمني يعاني من اضطرابات نفسية شائعة، أبرزها اضطراب ما بعد الصدمة، الاكتئاب والقلق نتيجة الظروف المعيشية الصعبة، والأمراض الذهانية مثل الفصام، التي غالبًا ما يُساء تفسيرها على أنها مس من الجن أو قوى خارقة.

ويربط الدكتور رمزي بين انتشار هذه الاضطرابات وعدة تحديات تعيق تقديم الدعم النفسي، منها نقص الوعي، ضعف البنية التحتية، غياب المتخصصين، الوصمة الاجتماعية، والتكاليف المادية الباهظة.

أما الدكتور حسن جناح، رئيس قسم الموارد البشرية بمكتب الصحة بمديرية كعيدنة محافظة حجة، فيقول إن هذه الاضطرابات تشمل القلق العام، اضطراب ما بعد الصدمة، الاكتئاب واضطرابات المزاج، صعوبات التكيف، اضطرابات الأطفال والمراهقين، آثار الإدمان، والشكاوى الجسدية النفسية مثل الصداع وآلام المعدة.

وتتفاقم الحالات بسبب نقص الخدمات المتخصصة، صعوبة الوصول إلى أطباء نفسيين أو أدوية مناسبة، فضلًا عن الوصمة الاجتماعية، كما تواجه برامج الدعم النفسي والاجتماعي تحديات مثل ضعف البنية التحتية، ندرة الكوادر، صعوبات النقل، الظروف الاقتصادية والأمنية، نقص التمويل والتدريب، ضعف التنسيق بين الجهات، وغياب نظام بيانات لرصد الحالات ومتابعتها.

ويؤكد الطبيب النفسي صخر الشدادي، أن غياب مراكز الصحة النفسية في الأرياف ينعكس سلبا على العلاقات الأسرية والاجتماعية، فيظهر على شكل مشكلات زوجية وارتفاع حالات الطلاق، بالإضافة إلى تنامي مشكلات المراهقين والشباب وتراجع المستوى الدراسي وصعوبات التعلم بين الطلاب، دون أن يدرك كثيرون أن الأسباب نفسية في جوهرها وليست اجتماعية فقط.

ويشير إلى أن غياب مراكز الصحة النفسية يؤدي إلى تفاقم الحالات النفسية وعدم اكتشافها إلا في مراحل متقدمة، حين تصل إلى حد الفصام، الأمر الذي يجعل رحلة العلاج أطول وأكثر صعوبة على المريض وأسرته.

أمثلة حية من الريف

عبدالسلام أحمد (25 عامًا) من محافظة عمران يعاني من وسواس قهري وخيالات مخيفة، ما دفعه لتناول حبوب منوّمة، مسببة له السمنة، ويوضح والده قائلا: “لا يوجد في الأرياف أي مراكز أو أطباء نفسيين، وحتى في المدن العلاج مكلف جدًا.”


“وفقًا لمنظمة الصحة العالمية فإن واحدًا من كل أربعة يمنيين أي أكثر من 5.5 مليون شخص، يعاني من اضطرابات نفسية ويحتاج إلى رعاية طبية متخصصة”.


أما عائشة صالح، امرأة أربعينية من الحديدة، فقدت زوجها وتحملت وحدها إعالة أبنائها، مما تسبب لها بالقلق والأرق المستمر، رغم صلابتها الظاهرية، تقول صديقتها: “ما تمر به عائشة صدمة نفسية تحتاج إلى مختص، لكنها لم تتمكن من الوصول إلى طبيب، والعقاقير التي تستخدمها لم تعد تجدي نفعًا.”

في محافظة تعز، تعاني مديرية الشمايتين من غياب المراكز المتخصصة بالصحة النفسية، وهو ما ينعكس سلبًا على الأهالي، خاصة في ظل ما خلفته سنوات الحرب من صدمات نفسية واضطرابات اجتماعية.

وبحسب مدير مكتب الصحة بالمديرية عبدالله نعمان، أنشأت إحدى المنظمات مؤخرا مركزا للدعم النفسي في بمدينة التربة، إلا أن المركز يعمل بإمكانيات محدودة، ما يجعله عاجزا عن تلبية الاحتياجات المتزايدة، لافتا أن المديرية تحتاج ما لا يقل عن أربعة مراكز.

الوضع لا يختلف كثيرًا في مديرية المعافر، إذ يؤكد مدير مكتب الصحة، طارق الحمدي، أن المديرية لا تمتلك سوى مركزا واحدا مختص بالصحة النفسية، وهو غير كاف لخدمة السكان.

وفي محافظة أبين، يقول مدير مكتب الصحة، محمد القادري، إنه لا توجد مراكز مخصصة للصحة النفسية لا في عزل المحافظة ولا في مدنها، ويقتصر الأمر على بعض العيادات التي تقدم الدعم النفسي داخل المستشفيات الكبيرة. ويشير القادري إلى ضرورة وأهمية إنشاء مراكز متخصصة بالصحة النفسية في أرياف ومدن المحافظة.

أستاذ علم الاجتماع بجامعة تعز، جمهور الحميدي، قال إن هناك الكثير من الحالات النفسية التي يعاني منها الافراد نتيجة الأحداث المؤلمة خلال الحرب في أرياف اليمن، والتي نتج عنها كثير من حالات الانتحار والسلوكيات غير الطبيعية التي ظهرت في الارياف أكثر من المدن.

ويشير الحميدي خلال حديثه لـ “منصة ريف اليمن”، إلى أن غياب مراكز الصحة النفسية يفتح المجال أمام المشعوذين والدجالين والممارسات الفردية التي لا يمكن أن ترتقي حتى إلى مستوى المساندة الاجتماعية، حد تعبيره.

خطوات نحو التعافي

يشدد الأطباء والخبراء على أهمية زيادة الوعي من خلال حملات شاملة بالتعاون مع الوجهات، تأهيل الكوادر المحلية عبر تدريب المعلمين والمرشدين والمتطوعين على الدعم النفسي الأولي، توفير مراكز دعم متنقلة، وحث المنظمات الدولية على تخصيص ميزانيات أكبر، ويؤكدون على تمويل مستدام، وتعزيز التنسيق بين الحكومة والمنظمات الدولية، وتفعيل دور الكوادر المحلية، مع حملات توعية لتشجيع المجتمعات على طلب المساعدة دون تردد.

في سبيل تفعيل خدمات الصحة النفسية في الأرياف يقول وكيل وزارة الصحة العامة والسكان المساعد لقطاع التخطيط، جلال باعوضه، أن هناك توجهًا جادًا لوزارة الصحة نحو تغطية خدمات الصحة النفسية رغم محدودية الإمكانيات المتاحة.


يواجه ما يقدر بنحو 7 ملايين شخص حاليا مشاكل نفسية وغياب المراكز المتخصصة يفتح المجال أمام المشعوذين والدجالين والممارسات الفردية”.


ويضيف باعوضه لـ ” منصة ريف اليمن” أن الوزارة تعمل على لفت انتباه المنظمات المحلية والدولية التي تنفذ مشاريعها في الأرياف إلى أهمية تخصيص جزء من مشاريعها لتقديم الدعم النفسي، معتبرًا أن ذلك يمثل خطوة أولى نحو سد الفجوة في هذا المجال.

ويشير الدكتور علي راجح إلى أن الجامعات والمراكز البحثية يمكن أن تلعب دورا محوريا في نشر الوعي وإنتاج المعرفة وتقديم توصيات علمية لصناع القرار، شرط دعم مالي واستقلالية بحثية وشراكات مع المجتمع المدني.

وعن نقص الكوادر الصحية، يؤكد باعوضه أن الوزارة ننفذ حاليًا مشروع دبلوم الصحة النفسية، الذي يستهدف تدريب عدد من الكوادر في هذا المجال، وتعمل على توسيع المشروع ليشمل عددًا أكبر من الكوادر خلال الفترة القادمة، ليكون رافدًا مهمًا لتغطية الاحتياج المتزايد لخدمات الدعم النفسي”.

وتسببت سنوات الصراع في تهييج أزمة صحة نفسية متزايدة في مختلف أنحاء اليمن، ويواجه ما يقدر بنحو 7 ملايين شخص حاليا مشاكل نفسية وضغوط نفسية بسبب النزاع المستمر، بحسب المنظمة الدولية للهجرة.

The post الصحة النفسية في الريف.. معاناة صامتة بين غياب الخدمات first appeared on ريف اليمن.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية