
عربي
تكتسب اتفاقية التجارة الحرة بين دول الخليج وإندونيسيا أهمية متزايدة بعد اختتام الجولة الثالثة من مفاوضاتها بجزيرة بالي الإندونيسية، والتي شملت سلسلة من 34 جلسة فنية شارك فيها نحو 80 متخصصاً من الجانبين، ما سلط الضوء على انعكاس الاتفاقية حال إقرارها وتطبيقها على أسعار السلع الغذائية المستوردة التي يعتمد عليها المواطن الخليجي يوميا، وعلى منتجات التصدير الإندونيسية داخل أسواق الخليج.
وتضمنت الجولة، التي جرت في سبتمبر/أيلول الماضي بين دول مجلس التعاون الخليجي وإندونيسيا، ملفات متعددة شملت: التجارة في السلع والقطاعات الخدمية، وتشجيع الاستثمار والمنافسة، وقواعد المنشأ، والإجراءات الجمركية، والاقتصاد الإسلامي، في ظل السعي الخليجي لتنويع الشراكات الاقتصادية وتقليل الاعتماد على النفط، حيث تمثل إندونيسيا أكبر اقتصاد في جنوب شرق آسيا وسوقاً استهلاكية ضخمة تضم أكثر من 270 مليون مستهلك.
وتشير أرقام البيانات الرسمية إلى أن إجمالي حجم التجارة السنوي بين إندونيسيا ودول مجلس التعاون بلغ 15.7 مليار دولار، توزعت بين صادرات إندونيسية بقيمة 6.1 مليارات دولار، وواردات من دول الخليج بنحو 9.6 مليارات دولار. وتؤكد الجولات التفاوضية المتقدمة التي شهدتها الأشهر الأخيرة، جدية الطرفين في إنجاز الاتفاقية، حيث استكملت الجولة الثالثة من المفاوضات جولتين سابقتين في جاكرتا في سبتمبر/أيلول 2024 والرياض في فبراير/شباط 2025، إذ يستهدف الطرفان إبرام الاتفاقية نهاية العام الجاري.
وللاتفاقية حال تطبيقها تأثير على أسعار السلع الغذائية التي يعتمد عليها المواطن الخليجي، ومنها زيت النخيل، إذ تشير التوقعات إلى أن الاتفاقية قد تحسن من استقرار الأسعار في المدى المتوسط، حيث تتحكم إندونيسيا في نحو 45% من الإنتاج العالمي لهذا الزيت، وبلغت أسعاره في البلد الآسيوي 911 دولاراً للطن المتري في يونيو/حزيران الماضي، في حين سجلت الأسعار في الأسواق الخليجية معدلات أعلى بسبب تكاليف النقل والرسوم الجمركية، (بحسب تقرير نشرته منصة آيمارك غروب IMARC Group، المتخصصة في أبحاث السوق، مشيرة إلى أن إزالة هذه الحواجز التعريفية من شأنها أن تترجم إلى انخفاض تدريجي في أسعار المنتجات الغذائية المصنعة في دول الخليج.
كما تبشر الاتفاقية المزمعة بإمكانيات واعدة لخلق فرص عمل جديدة في القطاعات الخدمية، خاصة التجزئة والنقل واللوجستيات، إذ تشير الدراسات الاقتصادية إلى أن اتفاقية تجارية مشابهة بين الإمارات وحدها وإندونيسيا، والتي دخلت حيز التنفيذ عام 2023 من المتوقع أن تولد أكثر من 55 ألف فرصة عمل في البلد الخليجي، مع التركيز على الوظائف المهارية في قطاعات التجارة والخدمات اللوجستية، وهو مؤشر يعكس الإمكانيات الكبيرة للاتفاقية الخليجية الشاملة في توليد فرص عمل مماثلة ، بحسب تقرير نشره موقع شركة الشرقي "Al Sharqi"، المتخصصة في خدمات الشحن واللوجستيات.
وفي قطاع النقل تحديداً، تستفيد دول الخليج من موقعها الاستراتيجي محوراً للتجارة العالمية، حيث تمر نحو 81% من واردات الأرز الخليجية عبر مضيق هرمز، و39% من واردات الحبوب عبر مضيق باب المندب، ومن شأن الاتفاقية مع إندونيسيا أن توفر طرقاً بديلة أكثر أماناً عبر المحيط الهندي، ما يعزز من أهمية الموانئ الخليجية ويخلق فرصاً استثمارية في البنية التحتية البحرية والجوية، بحسب تقدير نشرته منصة سي زد أدفايز "CZ Advise"، المعنية بشؤون قطاع الأغذية والزراعة.
ومن جانب المنتجات الإندونيسية الرئيسية في الأسواق الخليجية، تتوقع وزارة التجارة في البلد الآسيوي أن تعزز اتفاقية التجارة الحرة مع دول مجلس التعاون الصادرات إلى المنطقة الخليجية بنسبة 17.4%، مع زيادات متفاوتة بحسب القطاعات تشمل الأجهزة الكهربائية (33.86%)، والجلود (29.3%)، والمنتجات المعدنية (28%)، والمنسوجات (30.7%)، بحسب تقرير نشره موقع تيمبو "Tempo"، المتخصصة في الشؤون الإندونيسية.
وتحتل القهوة الإندونيسية موقعاً خاصاً في هذا السياق، حيث تنتج إندونيسيا 11.3 مليون كيس سنوياً (60 كيلوغراماً للكيس) مع زيادة متوقعة بنسبة 5% في موسم 2025-2026، ومعظم الإنتاج من نوع الروبوستا الذي يفضله المستهلكون في المنطقة العربية، بحسب تقرير نشرته منصة دايلي كوفي نيوز "Daily Coffee News"، المتخصصة في أسواق القهوة العالمية.
اتفاقية التجارة الحرة خطوة استراتيجية لدول الخليج
وفي هذا الإطار، يشير الخبير الاقتصادي، حسام عايش، لـ "العربي الجديد"، إلى أن عنوان نجاح اتفاقية التجارة الحرة بين دول مجلس التعاون الخليجي وإندونيسيا هو تسهيل التبادل التجاري وتعزيزه وفق قواعد منظمة التجارة العالمية، في التوترات التجارية العالمية المتصاعدة والرسوم الجمركية التي باتت تشكل عنواناً بارزاً للعلاقات التجارية الدولية.
وتأتي أهمية الاتفاقية من 3 زوايا رئيسية، بحسب ما يرى عايش، وهي: توقيتها الاستراتيجي في خضم التحولات الاقتصادية العالمية، والعائد الاقتصادي المتوقع منها، وتأكيد العودة إلى الأطر المؤسسية المنظمة للتجارة الدولية. فقد أطلقت مفاوضات الاتفاقية رسمياً عام 2024 وما زالت مستمرة، مع تقدم ملحوظ في مجالات التجارة في السلع والخدمات والاستثمار وتسهيل الإجراءات الجمركية، والقوانين المتعلقة بالمنتجات النباتية والحيوانية، كما يوضح عايش، لافتاً إلى تركيز الاتفاقية على أسواق ذات أولوية، مثل سوق السلع الغذائية، مع توقعات بزيادة حجم الاستثمار المشترك بين الطرفين.
ومن شأن الاتفاقية أن تساهم في تمكين الدول الخليجية من تنويع مصادر استيرادها، ما يسهم في تقليل تكاليف الاستيراد والنقل، ويحد من المخاطر المرتبطة بسلاسل الإمداد العالمية، بحسب تقدير عايش، معتبراً أن خفض الرسوم الجمركية وتبسيط الإجراءات من أبرز مكاسب الاتفاقية. فهذا الخفض يسهم في تخفيض كبير للضرائب على السلع الغذائية الإندونيسية، ويسهل دخولها إلى الأسواق الخليجية، وهذا بدوره يرفع من مستوى المعايير الصحية، ويقلل تكاليف الاستيراد، ويسرع وصول المنتجات إلى المستهلك، كما يشير عايش.
وستعزز الاتفاقية تدفق الاستثمارات في قطاعات الزراعة والتصنيع الغذائي والنقل اللوجستي والتجزئة، وهو ما يخدم الأمن الغذائي المشترك، خاصة أن نحو 80 إلى 90% من احتياجات الخليج الغذائية تستورد من الخارج، ومن ثم سيوفر تأمين سلع يومية مثل الأرز والبهارات والخضروات والفواكه، سواء مجمدة أو مصنعة أو طازجة، استقراراً في الأسعار، خاصة خلال فترات الاضطرابات المناخية أو الاقتصادية العالمية، وفقاً لعايش.
ومن المتوقع أن تنعكس هذه الاتفاقية إيجاباً على أسعار السلع في المتاجر الخليجية، حيث يؤدي انخفاض تكاليف الاستيراد، خاصة الرسوم الجمركية، إلى استقرار أو انخفاض في أسعار الأرز والسلع الأساسية، مع توسيع التنوع في الأصناف والأسعار بما يتناسب مع تنوع السكان والدخل في دول الخليج، كما يرى عايش. كما أن انخفاض الرسوم الجمركية وتبسيط الإجراءات من شأنه أن يسمح بدخول أنواع أفضل وأرخص من القهوة والتوابل، ما يزيد المنافسة في السوق المحلية ويرفع جودة المنتجات، بحسب تقدير عايش، لافتاً إلى أن إندونيسيا، باعتبارها من كبار منتجي الزيوت الغذائية ومصدريها، ستتمكن من تقديم منتجات بأسعار تنافسية، ما يخفض الأسعار على المستهلك الخليجي.
وإزاء دعم الاتفاقية لخفض كبير في الأسعار وتحفيزها للصادرات والواردات، خاصة في القطاع الغذائي، تتطلب نتائجها بناء نظام لوجستي أقوى في النقل والتخزين والتسليم المحلي، وهذا بدوره يخلق فرص عمل إضافية في قطاعات الشحن والموانئ والمطارات والمناولة، كما يؤكد عايش. كما أن المنافسة بين تجار التجزئة المحليين من شأنها أن تدفع إلى توسيع تنوع المنتجات، وفتح منافذ استيراد مباشرة، وهو ما يتطلب مزيداً من العمالة في التوزيع بحسب عايش، لافتاً إلى أن الاتفاقية قد تفتح أيضاً فرصاً في مجال التعبئة والتغليف المحلي، مما يخلق وظائف إضافية في هذا القطاع.
وبشكل عام، فإن زيادة حجم التبادل التجاري في السلع الغذائية وغيرها سينتج عنه استحداث وظائف جديدة، ما يسهم في خفض معدلات البطالة في دول الخليج، وهو مكسب اقتصادي واجتماعي إضافي لهذه الاتفاقية، كما يوضح عايش. ومن زاوية أخرى، تدعم الاتفاقية تسريع وتيرة التخليص الجمركي بين الطرفين، ما يوفر وقتاً وجهداً للمستثمرين والتجار، رغم وجود تحديات لوجستية متعلقة بالنقل البحري والجوي وتكاليف الشحن، والتي قد تؤثر على العائد النهائي، لكن الدافع نحو الأسواق قد يتجاوز هذه التحديات بحسب تقدير عايش، وهو ما يعزوه إلى انخفاض الرسوم وزيادة العوائد.
وحتى تقلبات أسعار العملات، التي قد تؤثر على الكلف، يرى عايش إمكانية التحكم فيها من خلال آليات تنظيمية تضبطها عند مستويات معقولة، ويخلص إلى أن الاتفاقية ستساهم في توفير سلع أساسية في الخليج مثل القهوة والتوابل وبعض أنواع الأرز والملابس منخفضة التكلفة، وستوسع فرص العمل في قطاعات التجزئة والتخزين والنقل والتغليف والتسويق وخدمات ما بعد البيع، ما يجعل الأسواق الخليجية أكثر تنافسية، ويمنح المستهلك خيارات أوسع لتلبية احتياجاته.
فرص الاستثمار الخليجي في إندونيسيا
وفي السياق، يشير الخبير الاقتصادي، وضاح طه، لـ "العربي الجديد"، إلى أن الاتفاقية بين دول مجلس التعاون الخليجي وإندونيسيا تمثّل خطوة مهمة جداً، لأن إندونيسيا من أكبر الاقتصادات في آسيا، وتمثل أكبر اقتصاد في جنوب شرق آسيا، ولديها قدرة اقتصادية كبيرة وموارد بشرية واسعة، ويقوم اقتصادها على ركيزتين رئيسيتين: الاستهلاك المحلي والصادرات.
وتوفر هذه الاتفاقية فرصة حقيقية لدول الخليج لاستيراد السلع بتكلفة أقل، إلى جانب فرص استثمارية واسعة في إندونيسيا، خاصة في قطاعات استراتيجية مثل صناعة السيارات، بحسب طه، مضيفاً أن إندونيسيا تعد من كبار منتجي النيكل في العالم، وهو عنصر أساسي في تصنيع البطاريات المستخدمة في السيارات الكهربائية، ما يجعلها وجهة جاذبة للاستثمارات الخليجية في هذا المجال. وينبّه طه إلى توقعات بأن يستمر النمو الاقتصادي الإندونيسي بوتيرة قوية حتى عام 2030 وأن يصبح الاقتصاد الإندونيسي ضمن أكبر 10 اقتصادات في العالم بحلول ذلك العام، ولهذا لا تقتصر الاتفاقية مع دول الخليج على منفعة قصيرة الأجل، بل تحمل بعداً استراتيجياً ورؤية مستقبلية واضحة.
كما أن مجالات التعاون المحتملة واسعة، ولا تقتصر على المنتجات الزراعية فحسب، بل قد تمتد إلى قطاعات صناعية حيوية، بحسب تقدير طه، مشيراً إلى أن انخفاض تكلفة الاستثمار في إندونيسيا، إلى جانب توفر رؤوس الأموال الخليجية، يخلق بيئة مواتية لإنشاء شركات مشتركة على الأراضي الإندونيسية، وهو ما قد يُسفر عن استثمارات خليجية ناجحة ومستدامة.

أخبار ذات صلة.

تحدّيات لا بد من مواجهتها
العربي الجديد
منذ 30 دقيقة

اللاتواصل في زمن التواصل
العربي الجديد
منذ 31 دقيقة

أيام الجوع العالمية في غزّة والسودان
العربي الجديد
منذ 31 دقيقة