"كتاب الوهم والحقيقة" لسامح قاسم.. لفظتان تطلان على لغة كاملة
عربي
منذ أسبوع
مشاركة
"كتاب الوهم والحقيقة" للشاعر المصري سامح قاسم يطابق عنوانه. الديوان، الذي يتصرف بالشعر بجسارة محيّرة، مقسّم إلى قسمين اثنين: واحد للوهم، والآخر للحقيقة. يمكن القول إنه أقرب إلى رباعيات، أو خماسيات وسداسيات، حيث يبدأ كل مقطع في القسم الأول بلفظة "الوهم"، ويبدأ كل سطر في القسم الثاني بلفظة "الحقيقة"، أي إن الشاعر يسخِّر عدداً من القصائد القصيرة للوهم، وأعداداً أخرى للحقيقة. لا يقتصر المقطع على استهلال اللفظة نفسها فحسب، بل يصبح هذا الاستهلال أول فكرة، أو لنقل قالباً فكرياً يتكرر في سياق النص بألفاظه نفسها، بلغتها الخاصة. فعلى سبيل المثال، في مقطع: "يتكلم الوهم بلغة الضوء/ يكتب عبارات في الفراغ/ معانيها في قلوبنا/ ولكننا نكتشف أنها تتبدد في الليل" نلحظ تكرار صور الضوء والليل، العبارات والمعاني، في بناء فكرة متكاملة بالألفاظ نفسها. وبالمثل، في قسم الحقيقة، نجد مقطعاً يقول: "الحقيقة ليست أمامنا/ بل في المكان الذي نسيناه/ تسكن في الحقيقة التي أضعناها/ في الجملة التي لم نقلها/ وفي القلب الذي لم نعطه فرصة ليحب". هنا أيضاً نواجه فكرة متوالية، بيتاً بعد بيت، تتكشف بصورها وألفاظها، وهو النهج الذي يستمر على امتداد الديوان. لكن اللافت هو عزم الشاعر على أن يؤلف من مقاطعه ومضاته ونثراته صوراً متعددة، وأن يطوي كل مقطع صورة أو أكثر، ما يمنح القارئ إحساساً بالإصرار والمتابعة الدؤوبة لموضوعه سواء بالمعنى أو اللفظ. الشعر الذي يتظاهر بالموضوع والأفكار لا يمكن أن يكون حقيقياً ما يبدو مجرد أفكار، وما يعلنه الشاعر في بداية المقطع، وما يُفرض عبر تقسيم الديوان إلى قسمين، يظهر لنا لاحقاً أنه جزء من هندسة النص نفسها. إن استهلال المقطع بلفظة "الوهم" أو "الحقيقة" ليس عفواً، بل هو اقتراح للقراءة، إيعاز إلى أسلوب التفاعل مع النص. المقاطع بهذا الشكل ليست منفصلة عن استهلالها، بل هو جزء من بنائها الجوهري؛ الوهم هنا ليس سوى مبنى من هذه اللفظة والمعنى، يتشكل حولها ومن خلالها. الشعر في هذا الديوان هو نسق أولاً وأخيراً. الوهم هو ما يستقطعه الشاعر من اللفظة والمعنى، ويجعل منه تكأة وفضاء وظلاً وابتداعاً. والشاعر يجعل من الوهم والحقيقة لعبته، حيث لا يكون الهدف درساً أو تحليلاً، بل مساحة استكشاف للغة نفسها. الوهم والحقيقة هنا قبل كل شيء لفظتان تطلان على لغة كاملة، بعيدتان عن التصورات المباشرة، موجودتان في فضاء اللغة وقدرتها على الاستيلاد، التغريب، الإيقاع، التشكيل... ما يفعله سامح قاسم في "كتاب الوهم والحقيقة" هو الاختراع قبل كل شيء. إنه اختراع للقصيدة وللشعر، حيث يطوع اللغة لإيجاد الشعر في أماكن لا يخطر للبشر أنها له، وتحويل الفكرة إلى صورة أو لوحة. الفكرة هنا تتجاوز نفسها لتخدم الشعر، فالشعر الذي يتظاهر بالموضوع والأفكار لا يمكن أن يكون حقيقياً إلا حين يكون خالصاً للشعر، أو حين نجده حيث لا يبقى سوى الشعر نفسه. الفكرة تغدو إيقاعاً وصورة، والعمل كله يصير نسقاً، حيث اللغة تعمل للشعر، والكلام، حتى حين يتظاهر بالبعد أو يستعير اسماً آخر، يبقى الشعر حاضراً في جوهره، وكلما ابتعد، ازداد أصالة واستحقاقاً لاسم الشعر. * شاعر وروائي من لبنان

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية