حين يتعلّم الأطفال لغة الحرب والكراهية
عربي
منذ أسبوع
مشاركة
في لحظة ما بعد سقوط الأنظمة السلطوية، يبرز سؤال الهُويّة في أشدّ صوره حساسية. ولذا تواجه سورية اليوم (في خضم التحوّلات العميقة بعد سقوط الأسد) تحديًا مُزدوجًا: إعادة بناء الدولة وإعادة بناء الوعي الجمعي الذي تفتّت بفعل عقود من الاستبداد والحرب. وواحد من أخطر التحديات في هذا السياق هي مسألة تلقين الأطفال الموروثات الخاطئة، تلك التي تشكّلت عبر خطاب الكراهية والانقسام الطائفي والإثني والسياسي الذي غذّته الحرب على مدى سنوات طويلة. فالأطفال، الذين هم اليوم جيل ما بعد الحرب، لم يعرفوا واقعًا خارج هذا الخطاب، ممّا جعلهم ويجعلهم عُرضةً لحمل رواسب الماضي ونقلها إلى المستقبل ما لم تتدخّل الأسرة والمجتمع بوعي ومسؤولية. حين ننظر إلى التجربة السورية، نُدرك أنّ خطاب الكراهية لم يكن مجرّد انفعال شعبي عابر، بل أداة سياسية مُمنهجة استُخدمت لتقسيم المجتمع وإدامة السيطرة. إذ عمد النظام البائد إلى ترسيخ صور نمطية عن الآخر، وصاغ ثنائية "معي أو ضدي"، فيما لعبت بعض الجماعات المسلّحة لاحقًا الدور ذاته عبر لغة إقصائية تجرّد المُختلف من إنسانيته. النتيجة أنّ الأطفال نشأوا وهم يسمعون روايات متناقضة عن "العدو"، وكلّ رواية مُشبعة بخوف وضغينة، وكأنّها الحقيقة المطلقة. هذا الوضع يخلق أجيالًا تحمل وعيًا هشًّا قائمًا على الانقسام، وهو ما يهدّد بإعادة إنتاج دوائر العنف حتى بعد توقّف المدافع. نشأ الأطفال وهم يسمعون روايات متناقضة عن "العدو"، وكلّ رواية مُشبعة بخوف وضغينة، وكأنّها الحقيقة المطلقة من منظور علم الاجتماع، التنشئة الاجتماعية في هذه المرحلة الانتقالية لا تعني فقط نقل قيم الأسرة إلى الأبناء، بل تعني المشاركة في صياغة وعي جمعي جديد. فإذا بقيت الأسرة أسيرة خطابها الطائفي أو الإثني الضيّق، فإنّها ستعزّز ما يسميه بيير بورديو بـ "العنف الرمزي"؛ أي إعادة إنتاج الهياكل التمييزية ذاتها التي أطاحت الوحدة الوطنية. أمّا إذا امتلكت الأسر شجاعة الانفصال عن الموروثات المسمومة، فإنّها ستفتح المجال أمام إمكانية بناء مجتمع مدني يتجاوز حدود الطائفة والجماعة الضيّقة. الأطفال السوريون الذين كبروا على صور الدمار والقتل يحتاجون إلى أن يسمعوا سرديات مُضادة تُعيد إليهم الإيمان بالإنسانية المشتركة. ومسؤولية الأهل هنا بالغة الأهمية: كيف يفسّرون لأولادهم ما حدث من دون الوقوع في فخ التعميم والكراهية؟ كيف يمكن أن يقولوا لهم: "نعم، هناك من ظُلِم وقُتِل، لكن ليس كلّ المختلفين أعداء؟"، هذه ليست مجرّد مسألة تربوية، بل مسألة سياسية بامتياز، لأنّ مستقبل سورية سيتحدّد بمدى قدرة الأهل على تربية جيل لا يرى في الآخر تهديدًا، بل شريكًا في إعادة البناء. الأطفال السوريون الذين كبروا على صور الدمار والقتل يحتاجون إلى أن يسمعوا سرديات مضادة تُعيد إليهم الإيمان بالإنسانية المشتركة ولكي يحدث ذلك، لا بُدّ من آليات عملية تتجاوز الكلام الإنشائي. ففي البيوت السورية اليوم، يمكن للآباء والأمهات أن يختاروا تقديم قصص تُبرز التعاون بين المكوّنات المختلفة للمجتمع، لا تلك التي تحتفي بالبطولة على حساب الآخر. يمكنهم أن يبتكروا حوارات يومية حول معنى العدالة والمواطنة، وأن يشجّعوا أبناءهم على التساؤل والنقد بدل التسليم الأعمى. يمكنهم أيضًا أن يعترفوا أمام أولادهم بأنّهم أنفسهم كانوا أسرى تحيّزات غذّتها الحرب، وأنّ الشجاعة ليست في إنكارها، بل في نقدها وتجاوزها. لكن الأسرة وحدها لا تكفي. فالمجتمع بحاجة إلى مؤسسات تربوية وثقافية تدعم هذا التوجّه، كي لا يكون الطفل مُمزّقًا بين خطاب منزلي يحاول أن يزرع الانفتاح، وخطاب مدرسي أو إعلامي يُعيد إنتاج الكراهية. المدارس السورية المُقبلة مطالبة بإعادة صياغة مناهجها على أساس التنوّع والمواطنة، لا على أساس التلقين الإيديولوجي. والإعلام بدوره يجب أن يتحوّل من بوق للتحريض إلى مساحة لروايات مُشتركة تعترف بالذاكرة المُتعدّدة للسوريين. يبقى السؤال الأكثر إلحاحًا: كيف نتعامل مع الذاكرة المُثقلة بالدماء؟ فالسوريون لا يمكنهم أن يطلبوا من أبنائهم نسيان ما جرى، ولا أن ينكروا أنّ هناك جرائم ارتُكبت بحقّ جماعات بعينها. لكن المطلوب هو التمييز بين مسؤولية فردية أو جماعة محدّدة، وبين وسم كامل الهُويّة الجماعية بالخيانة أو العداء. هنا يمكن للوالدين أن يقدّما نموذجًا عمليًا في العدالة الانتقالية المُصغّرة داخل الأسرة: الاعتراف بالخطأ، تسمية الظلم، والمطالبة بالمُساءلة، من دون أن يتحوّل ذلك إلى خطاب انتقامي يزرع بذور حرب جديدة. لحظة ما بعد الحرب لا تقل خطورة عن الحرب نفسها إن ما سيحدّد مصير سورية في العقد المقبل ليس فقط مآلات السياسة الكبرى، بل أيضًا تلك الأحاديث الصغيرة التي تدور في غرف المعيشة، على موائد الطعام، وفي ساحات اللعب. فإذا استمرت هذه الأحاديث في إعادة إنتاج الصور النمطية، فإنّ الأمل بالسلام سيتبدّد. أما إذا تحوّلت إلى مساحات لنقد الماضي وفتح الأفق نحو مستقبل قائم على التعدّدية، فإننا نكون قد وضعنا حجر الأساس لإعادة البناء الحقيقي. لذلك يمكن القول إنّ أخطر سلاح بعد الحرب ليس المدفع أو الطائرة، بل الكلمة التي تُلقَّن لطفل في بيته. فإذا كانت هذه الكلمة مُشبعة بالكراهية، فإنّها ستُعيد إنتاج الخراب، وإذا كانت محمّلة بالاعتراف والعدالة والرحمة، فإنها قد تكون بذرة وطن جديد يتسع للجميع. إذا وسّعنا زاوية النظر إلى تجارب انتقالية أخرى، سنرى أنّ الخطر واحد وإن اختلفت السياقات. في رواندا، بعد الإبادة الجماعية عام 1994، كان الأطفال شهودًا على خطاب الكراهية الذي حوّل الجار إلى عدو. ومع ذلك، اعتمدت الدولة في مرحلة ما بعد الحرب برامج تعليمية تركّز على المواطنة المشتركة بدل الهُويّات الإثنية، وسعت إلى تضميد الجرح عبر آليات "الغاتشاكا" للعدالة الانتقالية. لم يكن الطريق سهلًا، لكن الأهم أنّ الأسرة والمدرسة والإعلام عملت جميعًا على إعادة صياغة سردية جماعية تعترف بالماضي وتفتح نحو مستقبل مشترك. إذا استمرّت الأسر في سورية في إعادة إنتاج سرديات الكراهية، فلن يكون سقوط النظام سوى انتقال شكلي من شكل للعنف إلى شكل آخر وفي البوسنة والهرسك بعد حرب التسعينيات، واجه المجتمع تحدّيًا مُشابهًا. هناك، لم يكن خطاب الكراهية مُقتصرًا على النخب السياسية، بل كان يتسرّب عبر المناهج المدرسية والقصص العائلية اليومية. كثير من الأطفال تربوا على فكرة أنّ الآخر الذي يختلف في الدين أو القومية خطر دائم. غياب استراتيجية موحّدة للتربية ما بعد الحرب جعل إعادة بناء النسيج الاجتماعي عملية بطيئة، وما زالت آثار الانقسام حاضرة حتى اليوم. ما نستخلصه من هذه التجارب أنّ لحظة ما بعد الحرب لا تقلّ خطورة عن الحرب نفسها. فإذا استمرّت الأسر في سورية في إعادة إنتاج سرديات الكراهية، فلن يكون سقوط النظام سوى انتقال شكلي من شكل للعنف إلى شكل آخر. أما إذا امتلكت الأسر شجاعة نقد الذات وتفكيك الموروثات المسمومة، فإنها ستُصبح شريكًا في عملية إعادة البناء. وهذا يتطلّب من الأهل الاعتراف أولًا بأنهم أنفسهم كانوا أسرى لخطابات مشحونة، ثم تربية أبنائهم على التمييز بين المسؤولية الفردية والجماعية: بين من ارتكب جُرمًا محدّدًا، وبين وصم طائفة أو جماعة كاملة بالذنب. البديل عن تلقين الكراهية هو التربية على سرديات مُضادة، تركّز على أنّ السوريين جميعًا دفعوا ثمن الاستبداد والعنف، وأنّ التعدّدية ليست تهديدًا بل مصدر ثراء. يمكن للوالدين أن يقدّموا لأطفالهم قصصًا عن التعاون بين مختلف المكوّنات، وأن يفتحوا حوارات صريحة حول معنى العدالة والحرية. ويُمكن للمدارس والإعلام أن يلعبا دورًا تكامليًا في نقل روايات تعترف بالماضي من دون أن تحوّله إلى وصمة دائمة. إنّ الدرس الأكبر من رواندا والبوسنة هو أنّ المجتمعات الخارجة من الحرب تقف أمام خيارين: إمّا أن تُعيد إنتاج الماضي في أذهان جيل جديد، وإمّا أن تختار رواية مشتركة تُعيد تعريف الهُويّة الوطنية. وفي سورية، لا يمكن تحقيق هذا التحوّل إلا إذا بدأ الأهل من بيوتهم الصغيرة، وقرّروا أنّ الكلمة التي يقولونها اليوم لأطفالهم قد تكون السلاح الأخطر بعد الحرب. فإذا كانت محمّلة بالكراهية، فإنها ستُعيد إنتاج الخراب، وإذا حملت الاعتراف والرحمة والعدالة، فإنّها قد تكون بذرة وطن جديد يتسع للجميع.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية