
عربي
تباينت آراء السوريين حيال التجربة الانتخابية الأولى (5/10/2025) لاختيار ثلثي أعضاء المجلس التشريعي المُقبل. هناك من تحامل عليها، وعاملها انتخاباتٍ ناقصةً شكلاً ومضموناً، وجد فيها من العيوب ما يتجاوز الانتخابات في أعتى الدكتاتوريات، بينما اعتبرها قطاع آخر كاملة الأوصاف، ومنتهى الطموح بعد قرابة ستّة عقود من حكم الحزب الواحد، وعائلة الأسد، ونظامه الذي ابتذل العملية الانتخابية، وحوّل سورية صحراءَ سياسية. وفي واقع الأمر، يفتقر الرأيان للإنصاف والتواضع المطلوبين حيال بلد ينهض من تحت الركام، ويحاول أن يتلمّس طريقه نحو التعافي.
لا يكون حلّ مشكلات سورية الراهنة بإجراء انتخابات تشريعية تمثيلية حرّة وشفّافة، تنبثق منها حكومة تقود البلد. الكل يدرك أن هذا مطلب طوباوي، يستحيل تحقيقه في ظلّ الظرف الحالي والإمكانات المتاحة، وهناك عدّة شروط لتنظيم الانتخابات ونجاحها غير متوافرة في الحال السوري، منها الإحصاء السكّاني، وبسط الدولة سلطتها، ووحدة الجغرافيا، وتحقيق السلم الأهلي، وعودة ملايين المهجّرين المرهونة بتوافر الخدمات الضرورية اللازمة، من خدمات الكهرباء والماء والبنى التحتية، والسكن والتعليم والصحّة.
تمرّ سورية في مرحلة انتقالية، وكل ما تحتاجه، أو تقوم به السلطات، التي تولّت مسؤولية إدارة البلد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، يجب أن يبقى داخل هذا الإطار ولا يخرج منه. والمطلوب منها وضع خطط وتصوّرات قابلة للتنفيذ من أجل تلبية شروط التحوّل نحو الوضع الدائم. وعلى هذا الأساس، يمكن النظر إلى التجربة الأولى التي جرت الأحد الماضي، والحكم عليها من هذه الزاوية، لا انتخاباتٍ تشريعيةً من أجل انتخاب مجلس للشعب، بل تشكيل مجلس تشريعي لمهام محدّدة خلال هذه المرحلة، منها تصريف الأعمال الخاصّة بالدولة على المستوى التشريعي، ووضع أسس القوانين التي ستحكم سورية المستقبل، ومن ذلك كتابة دستور جديد، تجري على أساسه انتخابات تشريعية ورئاسية، وتسنّ القوانين الناظمة للحريات، وتنظيم عمل الأحزاب السياسية، ووسائل الإعلام المستقلّة.
مطالب المعترضين وادّعاءات المؤيّدين مبالغ فيها، ولا ترى حجم الكارثة التي تعيشها سورية. البلد مدمّر على المستويات كافّة، والأولوية لوضع خطّة بناء من الصفر. سورية اليوم دولة هشّة، لا يمكنها النهوض بمهمات كبيرة قبل تفعيل ماكينة الدولة وأجهزتها، وليس في وسعها أن تقف على قدميها من دون توفير الخدمات الأساسية، وبسط الأمن، وتحقيق السلم الأهلي، وإطلاق آلية العدالة الانتقالية.
خطوة اختيار هيئة تشريعية مؤقّتة لا تخرج من قواعد المرحلة الانتقالية، وما جرى تمرين تشاركي لا يتجاوز هذه الحدود، والمهمّة المنوطة بالمجلس محصورة في تنظيم التحوّل، وإدارته وضع الأسس لإعادة بنيان الدولة المهدّمة، وليس اختراع شكل جديد للحكم أو أسلوب لاحتكار السلطة، بدليل أن برامج المرشّحين حملت وعوداً تتعلّق بإصلاح وضع الخدمات، والعمل مع السلطات في حلّ مشكلات المجتمعات المحلّية، وإنشاء قناة تواصل يومية مع الأجهزة الحكومية لتحسين الأداء، والحدّ من التجاوزات.
مرّت العملية بهدوء ومن دون مشكلات، وعُوملتْ بإيجابية من القطاع الأوسع من المجتمع السوري. رغم نواقص كثيرة عرفتها، بسبب العامل الزمني والآلية المتّبعة، ولكن الحكم النهائي عليها ليس ممكناً إلا حينما يكتمل تشكيل المجلس ويباشر مهامه. ومع ذلك، فإنها تعكس جملة من المؤشّرات، منها مدى قدرة الأجهزة الجديدة على التنظيم والإدارة، وتحقيق نسبة نجاح فوق المتوسّط في تجاوز أول اختبار ذي طبيعة مختلفة عمّا واجهته في السابق، إذ تولّت مهمات قتالية وأمنية، وهذه المرة الأولى التي تنظّم وتدير عمليةً انتخابية، غطّت القسم الأكبر من البلد، ولم تشهد ما يُعكّر صفوها إلا على نحو محدود.
