
عربي
يستضيف متحف فيكتوريا وألبرت في لندن معرضاً للمشاريع الفوتوغرافية المشاركة في الدورة الحادية عشرة من جائزة بيكتيه (Prix Pictet 2025) للتصوير الفوتوغرافي. يضمّ المعرض، المستمر حتى 19 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، عشرات الأعمال التي وصلت إلى القائمة القصيرة، وجميعها مشاريع تسعى إلى مقاربة الثيمة الرئيسة للجائزة هذا العام، وهي "العاصفة"، بما تحمله الكلمة من دلالات بيئية وسياسية وإنسانية. وسط هذه الأعمال، يبرز مشروع المصوّر الفلسطيني بلال خالد بعنوان "أيادٍ تحكي قصصاً"، الذي يسلّط الضوء على تجربته القاسية تحت القصف الإسرائيلي في قطاع غزة، وعلى شهادته اليومية على المجازر التي ارتُكبت هناك.
بدأت قصة خالد حين دمّر القصف منزله في خانيونس، فلجأ إلى خيمة صغيرة بجوار مشرحة مستشفى ناصر. كانت المشرحة مكتظّة بالجثامين، والهواء مثقلاً برائحة الموت، لكنه قرّر أن يجعل من تلك الخيمة استديو مؤقتاً، ومن الكاميرا وسيلته الوحيدة للبقاء. من هناك بدأ يوثّق ما يحدث، لا عبر صور الدمار والدخان، بل عبر الأيادي البشرية المكلومة، تلك التي تعمل وتُمسك وتحتضن وتفقد.
في بيانه المرافق للمعرض، يكتب خالد أنه كان يسمع أزيز الطائرات من دون توقف، وأن يده نفسها أُصيبت أثناء تغطية قصف أحد المنازل. لفّ الجرح بقطعة قماش وجدها بين الأنقاض وأكمل التصوير، لأنه أدرك أن اليد ليست مجرد أداة مهنية، بل امتداد للهوية والذاكرة. من هنا وُلدت فكرته: أن تَروي الصور الحكايات من خلال الأيادي. يد امرأةٍ تمسك بجثة ابنها، وأخرى تنبش التراب بحثاً عن ناجٍ، يد تتشبّث بآخر ومضة حياة، وأخرى ما زالت ممدودة نحو الماء أو الضوء أو السماء.
على مدى أكثر من مئةٍ وثمانين يوماً من التصوير المتواصل، التقط خالد عشرات الصور التي تتحوّل فيها اليد إلى شاهد على البقاء. أيدٍ صغيرة ومشققة، مجروحة ومجمّدة، لكنها تواصل الإمساك بالحياة. يقول خالد إن كل يد تمثّل قصة، وكل قصة تحمل معاني الغياب والبقاء في آنٍ واحد.
بهذا المعنى، تتحوّل السلسلة إلى سرد جماعي للوجع الفلسطيني، وجعٍ يواجه الموت بالتشبّث لا بالانكسار. ما يميّز هذه الصور أنها لا تصرخ ولا تستجدي التعاطف، بل تتحدّث بلغة الصمت، وتجعل المشاهد يقترب ليرى تفاصيل الجلد والتراب والأظافر المحترقة. في كل لقطة، يبدو الجسد الفلسطيني كأنه يحفر ذاكرته على سطح الزمن.
يحمل حضور بلال خالد في هذه الدورة من الجائزة دلالة رمزية عميقة، إذ يمثّل أول حضور فلسطيني ضمن القائمة القصيرة إلى جانب أسماء عالمية من أوروبا وأميركا اللاتينية وآسيا. ورغم الطابع الدولي للمعرض، جاءت صوره الأكثر مباشرة وتأثيراً؛ فبينما تناول الفنانون الآخرون فكرة "العاصفة" في سياقات الطبيعة أو السياسة، بدت صوره كأنها تختصر كل العواصف في عاصفة واحدة: عاصفة الحرب على غزة.
في القاعة نفسها، عُرضت أعمال الفنان التشيلي ألفريدو جار، الفائز بالجائزة الكبرى عن سلسلته "النهاية"، التي توثّق جفاف بحيرات الملح في ولاية يوتا الأميركية بسبب التغيّر المناخي. إلى جواره، قدّم المصوّر المجري بالاز جاردي أعماله عن اقتحام مبنى الكابيتول الأميركي، بينما صوّرت الفرنسية ليتيسيا فانصون صمود سكان أوديسا في أوكرانيا.
غير أن صور بلال خالد كانت الأكثر إنسانية وتجريداً في آن؛ فهي لا تصف مشهداً بعينه، بل تقترح لغة بشرية بديلة عن الخطاب السياسي والإعلامي، وتعيد تعريف الفوتوغرافيا بوصفها فعلاً أخلاقياً لا جمالياً فحسب.
خالد، المولود في خانيونس عام 1992، لم يدرس التصوير في معهد أو أكاديمية، بل تعلّمه في الميدان وسط الحروب والمخيمات. شارك في تغطية الحروب في غزة وسورية وأذربيجان، وعرض أعماله في باريس وبريطانيا وقطر، ونُشرت صوره في مجلات وصحف عالمية، مثل تايم وذا غارديان ووول ستريت جورنال.
