
عربي
ما إن تم الإعلان عن اتفاق غزة، أكد محافظ سلطة النقد الفلسطينية (البنك المركزي) يحيى شنار، أمس الخميس، العمل بجد وإصرار لاتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة لإعادة تقديم الخدمات المصرفية في قطاع غزة في أقرب وقت ممكن.
وقال شنار في بيان له: "إن سلطة النقد الفلسطينية، وانطلاقاً من مسؤوليتها الوطنية والإنسانية، ملتزمة بالوقوف إلى جانب أبناء شعبنا في هذه المرحلة الدقيقة، وتعمل بالتعاون مع مؤسسات الإغاثة والشركاء المحليين والدوليين لتسهيل تدفق المساعدات عبر توفير الخدمات المالية والمصرفية اللازمة".
ويُعتبر بيان شنار أول إعلان رسمي عن نية إعادة العمل في وقت قريب، بعدما أغلقت البنوك والمؤسسات المصرفية في قطاع غزة أبوابها في اليوم الأول للعدوان، ولم تفتحها حتى خلال فترات الهدوء نتيجة غياب الأمن والظروف الميدانية المعقدة، إذ كان يعمل في القطاع 11 مصرفاً محلياً وأجنبياً قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، فضلاً عن بنكين محليين غير معترف بهما يتبعان للحكومة التي كانت تديرها حركة حماس.
وقد جرى تدمير معظم مقار البنوك منذ بدء الإبادة واستُهدف الكثير منها بالسرقة والنهب. وبحسب تقرير التقييم السريع والمؤقت للأضرار والاحتياجات، الذي أعدّه بشكل مشترك البنك الدولي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، فإن القصف الإسرائيلي أدى إلى انهيار شبه كامل للقطاع المالي والمصرفي في غزة، حيث دُمّرت مقرات البنوك وفروعها وصرافاتها الآلية على نطاق غير مسبوق في تاريخ الصراعات الحديثة.
وأشار التقرير إلى أن غزة ستحتاج إلى نحو 42 مليون دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة لإعادة بناء القطاع المالي وتوسيع نطاق المدفوعات الرقمية والخدمات المالية، ومعالجة نقص السيولة النقدية، والحفاظ على تدفقات التحويلات المالية، في حين تبقى الحاجة إلى إصلاح شامل للنظام النقدي قائمة إلى ما بعد انتهاء الحرب وإزالة الأنقاض.
انعكاسات إغلاق البنوك
وخلال الفترة الممتدة من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 حتى أغسطس/ آب 2024 شهد القطاع ظواهر مصرفية غير مسبوقة، تمثلت في نظام "التكييش" النقدي مقابل عمولات تصل إلى ما بين 25-40% نتيجة عدم إدخال الاحتلال السيولة النقدية وتوقّف عمل البنوك نتيجة تواصل العدوان. فيما يتم تداول العملات القديمة والتالفة في أسواق غزة خلال الأيام الأخيرة، بعدما بدأ تجار محليون بجمعها وتصديرها إلى إسرائيل مقابل تحويل قيمتها إلكترونياً، ما أدى إلى تراجع الكميات المتوفرة من النقد في السوق.
ويؤكد تجار لـ"العربي الجديد"، أن هذا التوجّه، الذي يجري بغطاء غير مباشر من الجانب الإسرائيلي، عمّق أزمة الكاش القائمة بدل حلّها، إذ تُسحب العملات المتداولة من أيدي المواطنين دون ضخّ سيولة بديلة. وقال التقرير إن الدمار الذي لحق بالبنية المصرفية في غزة بلغ حداً غير مسبوق. فقبل الحرب كان في القطاع 56 فرعاً بنكياً موزعة على محافظات غزة وخانيونس ورفح وشمال غزة والمنطقة الوسطى.
وبعد أشهر من القصف المتواصل، تبيّن أنّ 33 فرعاً دُمّرت كلياً بفعل الغارات المباشرة، بينما تضرر 19 فرعاً بأضرار جزئية جسيمة حالت دون تشغيلها. وبذلك، فإنّ 98% من البنية المصرفية أصبحت غير عاملة مع نهاية عام 2024. وأشار التقرير إلى أنّ هذا الدمار شمل أيضاً المقرات الإدارية والمستودعات المالية، وأنّ عدداً من الخزائن الرئيسية للبنوك دُمّرت أو تضررت بسبب الانفجارات المباشرة التي طاولت مبانيها.
وهذا الانهيار المالي لم يقتصر على الجانب التجاري فحسب، بل مسّ أيضاً قدرة السكان على تلقي المساعدات وتحويل الأموال من الخارج. فتعطّل البنوك والصرافات جعل وصول التحويلات من الفلسطينيين في المهجر ومنظمات الإغاثة أكثر تعقيداً من أي وقت مضى. وقدّر التقرير أن الخسائر المادية المباشرة في البنية المصرفية والمالية بلغت 14 مليون دولار، وهي كلفة إعادة تأهيل المباني والمعدات الأساسية. لكن الخسائر غير المباشرة، الناتجة عن توقف النشاط المالي وتجميد الائتمان وتراجع الدخل المصرفي، وصلت إلى 325 مليون دولار مع بداية عام 2025.
تعطل الاقتصاد
وحذّر التقرير من أن توقف النظام المالي في غزة أدى إلى تعطّل الاقتصاد المحلي بشكل شبه كلي، إذ لم يعد بالإمكان دفع الرواتب أو إجراء التحويلات التجارية أو تسديد الفواتير، ما أدى إلى ارتفاع معدلات الفقر والبطالة إلى مستويات قياسية.
ويأمل أهالي غزة، وفق أحاديث مع "العربي الجديد"، بأنّ يؤدي الاتفاق ووقف إطلاق النار الفعلي والهدوء إلى إعادة ضخ السيولة للأسواق وتشغيل البنوك تدريجياً، إلى جانب تدخل دولي يضغط على الاحتلال لوقف سياسة التجفيف النقدي، ما يعني للفلسطينيين نهاية حقبة سيئة من خسارة الأموال.
ووفقاً لتقرير معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس) الصادر عام 2024، فإنّ البنوك الكبرى التي كانت تزاول نشاطها في غزة قبل الحرب تشمل: بنك فلسطين، وهو أكبر بنك في فلسطين، يمتلك أكبر عدد من الفروع في غزة، وتعرض عدد من فروعه في مدينة غزة والشمال للتدمير الكامل، بالإضافة إلى بنك القدس الذي لديه فروع في غزة وخانيونس أُصيبت معظمها بأضرار شديدة، والبنك الوطني تضررت فروعه في غزة ورفح، وبنك الاستثمار الفلسطيني خسر فرعه الرئيسي في شارع الوحدة بمدينة غزة، والبنك العربي تضررت مكاتبه ضمن الأبنية التجارية التي استهدفتها الغارات، وبنك القاهرة عمّان تعرّضت فروعه الواقعة في المدينة القديمة لأضرار مباشرة، وبنك الأردن دُمّر فرعه في حي الرمال، والبنك الإسلامي الوطني، وهو بنك محلي غير مرخّص من سلطة النقد، دُمّر بالكامل جراء القصف. كل هذه المصارف، بحسب التقرير، توقفت عن العمل بالكامل منذ الأيام الأولى للحرب ولم تستطع استئناف خدماتها.
وأدى تدمير البنوك إلى شلل كامل في حركة النقد داخل القطاع. ولم تعد عمليات السحب والإيداع متاحة، ولم يتمكن السكان من الوصول إلى مدخراتهم أو تحويل الأموال.
وقال الخبير الاقتصادي ثابت أبو الروس، في حديث سابق لـ"العربي الجديد": "دون القطاع المصرفي لا يمكن للاقتصاد أن يتحرك، خاصة في ظل النقص الكبير في السيولة النقدية، والذي تفاقم بسبب انتقال مبالغ ضخمة إلى خارج القطاع خلال العدوان الإسرائيلي"، وشدّد على ضرورة العمل بشكل سريع وفوري على تمكين المواطنين من الوصول إلى أموالهم، سواء عبر السحب أو إجراء المعاملات التجارية، ولا بد من العمل على تقليص فترة العودة إلى الحياة الطبيعية.
وذكر التقرير المشترك للبنك الدولي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي أنّ إسرائيل منعت إدخال العملة النقدية الجديدة إلى غزة منذ الأسابيع الأولى للحرب، ما فاقم الأزمة المالية، كما أشار إلى أن "النظام المالي بأكمله في غزة انتقل من حالة النشاط إلى الانهيار الكامل خلال ثلاثة أشهر فقط".
وتوصّل التقرير إلى توصية عاجلة بضرورة إنشاء نظام دفع رقمي فوري بديل، لتعويض غياب الفروع المادية وتسهيل التحويلات. وعلى أثر ذلك، أعلن البنك الدولي وسلطة النقد الفلسطينية في ديسمبر/ كانون الأول 2024 عن إطلاق منظومة المدفوعات الفورية "iBuraq"، لتكون منصة مالية رقمية تساعد على تنفيذ المدفوعات بين الأفراد والتجار إلكترونياً في ظلّ غياب الفروع البنكية.
