بريق الذهب لن يخفت قريباً
عربي
منذ أسبوع
مشاركة
 ما إن دخلت الولايات المتحدة حالة الإغلاق الحكومي، في بداية الشهر الحالي، حتّى بدأت أسعار الذهب رحلة الصعود إلى مستويات قياسيّة جديدة وغير مسبوقة. وأنهت الأسعار جلسة أول من أمس الأربعاء عند مستوى قياسي بلغ 4070.5 دولاراً، وبنسبة زيادة تفوق 50% عن بداية العام. القفزة الأخيرة في أسعار الذهب كانت مفهومة. فحالة الإغلاق الحكومي ستعني زيادةً في مستوى الضبابيّة وعدم اليقين بالنسبة للمستثمرين، وخصوصاً لجهة تداعيات الوضع المُستجد على مؤشّرات الاقتصاد الكلّي الأميركي. كما ستؤدّي إلى تأخّر، بل وربما عدم صدور بيانات أساسيّة عن الإدارات الفيدراليّة، ما سيزيد من صعوبة قراءة الوضع النقدي والمالي. وفي أوضاع كهذه، تزيد جاذبيّة الملاذات الاستثماريّة الآمنة، كالذهب. إلا أنّ مسار الصعود القويّ في الأسعار لم يبدأ، كما هو معلوم للجميع، مع إعلان الإغلاق الحكومي الأميركي. فمنذ بداية السنة الراهنة، سجّل سعر الأونصة قفزات متتالية، بنسبة زيادة تراكميّة ناهزت الـ 47% حتّى اللحظة. وبهذا المعنى، لم تكن تبعات الإغلاق الحكومي سوى محطّة واحدة، ضمن منحنى الارتفاعات المتتالية، التي غذّتها جملة من العوامل المتشابكة. أمّا الأهم، فهو أنّ طبيعة هذه العوامل نفسها، ستستمر بدفع أسعار الذهب للارتفاع طوال الفترة المقبلة، وجاذبيّة المعدن الأصفر لن تخبو على المدى المنظور. ولهذا السبب بالتحديد، توقّع مصرف Goldman Sachs أن تسجّل أسعار الذهب ارتفاعاً إضافياً بنسبة 6% خلال النصف الأوّل من العام 2026، بينما قدّر مصرف HSBC أن تتجاوز أسعار الذهب "في الأجل القريب" مستوى أربعة آلاف دولار للأونصة، ما يشكّل زيادة نسبتها 3.6% مقارنة بالأسعار الحاليّة، وهو ما حدث بالفعل يوم الأربعاء الماضي، بل إن "غولدمان ساكس" توقع وصول السعر إلى 4900 دولار للأوقية في ديسمبر/كانون الأول 2026، بدلاً من تقديره السابق البالغ 4300 دولار. أول العوامل التي ساهمت بارتفاع أسعار الذهب، وستستمر بدفعها صعوداً على المدى المنظور، يتمثّل في بيئة أسعار الفوائد الحاليّة في أسواق المال. والقاعدة هنا واضحة جداً. فتراجع معدلات الفوائد، يؤدّي إلى انخفاض جاذبيّة أسواق السندات، وسائر الأدوات الماليّة ذات العائد الثابت. وهذا ما يرفع تلقائياً الطلب على الذهب بوصفه استثماراً بديلاً. ولهذا السبب، غالباً ما ترتبط أسعار الفوائد والذهب بعلاقة عكسيّة. منذ الربع الأخير من العام الماضي، خفّض مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) نسبة الفائدة المستهدفة أربع مرّات، بما فيها التخفيض الأخير خلال الشهر الماضي، بمقدار رُبع نقطة مئويّة. وكل هذه التخفيضات ساهمت بتحفيز القفزات المتتالية في أسعار الذهب، منذ أواخر العام الماضي. وفي الوقت الراهن، تشير معظم التحليلات إلى أنّ دورة التيسير النقدي، أي خفض معدلات الفوائد، ستستمر خلال الأشهر المقبلة. فعلى سبيل المثال، توقّعت إدارة الأصول في مصرف Goldman Sachs أن يخفّض الاحتياطي الفيدرالي نسبة الفائدة المُستهدفة مرّتين إضافيّتين هذه السنة، في شهريّ أكتوبر/تشرين الأوّل وديسمبر/كانون الثاني، على أن يُضاف إلى ذلك تخفيضان إضافيان خلال السنة المقبلة. وبهذا الشكل، ستستمر دورة التيسير النقدي بدفع أسعار الذهب صعوداً، مع كل تراجع في معدلات الفائدة. وهذه التوقّعات لا تتعارض بتاتاً مع تقديرات Citigroup، التي ترقّبت عودة معدلات الفوائد للارتفاع لاحقاً عام 2027. لكن حتّى العام 2026، على أقل تقدير، من المتوقّع أن تستمر دورة تخفيض الفوائد الحاليّة، لأسباب ترتبط بضعف النمو الاقتصادي الأميركي، والتراجع النسبي في معدلات التضخّم، فضلاً عن مؤشّرات التباطؤ في سوق العمل، والضغوط التي تمارسها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بهذا الاتجاه. ثمّة عوامل أخرى، ذات طابع عالمي، ما زالت تدفع أسعار الذهب للارتفاع. ومنها شهيّة المصارف المركزيّة لاكتناز المعدن الأصفر، بوصفه احتياطيا استراتيجيا. فخلال العام الحالي مثلاً، بلغ معدّل شراء المصارف المركزيّة للذهب حدود الـ 64 طناً شهرياً، وهو ما يتجاوز الخمسة أضعاف هذا المعدّل قبل العام 2022. وبالنسبة للمستقبل، أفاد مسحٌ أجراه مجلس الذهب العالمي بأنّ 95% من المصارف المركزيّة تتوقّع المواظبة على اكتناز المزيد من احتياطات الذهب، على مدى الأشهر الـ 12 المقبلة. ولهذا الاتجاه العالميّ أسبابه الواضحة أيضاً. فعلى مدى السنوات الأربع الماضية، أفرطت الولايات المتحدة في استعمال سلاح العقوبات الماليّة، بالاستفادة من هيمنة الدولار بما هو عملة احتياط وتداول. وكانت النتيجة الطبيعيّة اتخاذ الكثير من الدول إجراءات احتياطيّة، لتقليص انكشافها على الأصول والاستثمارات المدولرة، مقابل زيادة الاعتماد على احتياطات الذهب. وبهذا الشكل، كانت هذه الدول تتحسّب ليومٍ يمكن أن يُستعمل فيه سلاح العقوبات ضدّها، ولو من باب التهديد. تُعتبر الصين نموذجاً مثالياً يعبّر عن هذا النمط. فحتّى بداية شهر سبتمبر/أيلول الماضي، كانت الصين قد اشترت 21 طناً من الذهب هذه السنة، بعدما اشترت 44 طناً العام الماضي، و225 طناً خلال العام 2023. وهذا التوجه، كان من الأدوات التي اعتمدتها بكين لتنويع احتياطاتها، وتقليص اعتمادها على الدولار، تحسّباً لأي تصعيد محتمل مع الولايات المتحدة الأميركيّة. السياسات التي اعتمدتها إدارة ترامب خلال هذه السنة، ساهمت بتقوية هذا الاتجاه. فتوجّهات ترامب لم تقتصر على تنشيط سلاح العقوبات، ضد خصوم مثل إيران أو روسيا. بل ذهبت بعيداً في خوض الحروب التجاريّة مع أقرب الحلفاء، ما أكّد أنّ الولايات المتحدة وسياساتها الخارجيّة لن تكون شريكًا يمكن التعويل عليه، حتّى انقضاء ولاية ترامب على الأقل. وأمام رئيس يُفاخر بمزاجيّته وتقلّباته، ارتفعت مستويات الضبابيّة المؤسّساتيّة في الولايات المتحدة، ما رفع من قيمة الذهب كملاذ آمن. في الوقت نفسه، ساهمت الضغوط القاسية التي مارسها ترامب على الاحتياطي الفيدرالي، في طرح أسئلة حول احتمال تأثّر السياسة النقديّة الأميركيّة بأولويّات البيت الأبيض السياسيّة. والإشكاليّة الكبرى هنا، تكمن في تبنّي ترامب أفكاراً تؤمن بمنافع إضعاف قيمة الدولار، ما يحفّز المستثمرين تلقائياً على البحث عن بدائل تغنيهم عن الأصول المدولرة. والذهب، كما هو معروف، يحتلّ موقع الصدارة في قائمة هذه البدائل. تُضاف إلى كل تلك العوامل أزمات أخرى، مثل ارتفاع قيمة الدين الأميركي إلى مستويات تاريخيّة، تجاوزت حدود الـ 37 تريليون دولار. آخر المؤشّرات المقلقة على هذا الصعيد، كان تخفيض تصنيف الدين العام الأميركي من قبل وكالة موديز هذه السنة، ما أفقده أعلى درجة ثقة كانت تمنحها الوكالة لهذا الدين. والنتيجة الطبيعيّة هنا، كانت تزايد الشكوك في استدامة هذا الدين على المدى البعيد. وذلك ما عزّز حظوة الذهب، بوصفه استثمارا بعيد عن مخاطر السندات الأميركيّة، التي كانت تُعتبر سابقاً استثماراً شبه خالٍ من المخاطر. بالإضافة إلى كل ما سبق، لم تحمل السنة الراهنة الكثير من التقدّم في ضبط رقعة التوتّرات الجيوسياسيّة، ما يزيد من بريق الذهب بما هو ملاذ آمن. بل مع مرور الوقت، ترتفع احتمالات نشوب حرب جديدة، وأكثر خطورة، مع إصرار الصين على فرض سيادتها على جزيرة تايوان. وفي حال تحقّق هذا السيناريو، سيكون لهذه الحرب تداعيات اقتصاديّة أكبر، وخصوصاً في أسواق أشباه الموصلات. فحتّى هذه اللحظة، ما زالت تايوان مسؤولة عن تصنيع 90% من الشرائح الإلكترونيّة الأكثر تقدماً في هذه الأسواق. أمام كل هذه الأسباب، قد يكون من المفيد أن تلحظ صناديق الثروة السياديّة في المنطقة أهميّة تنويع أصولها، بما يشمل زيادة احتياطاتها الاستراتيجيّة من الذهب على المدى البعيد. فهذا النوع من الاحتياطات، سيكون كفيلاً بتقليص الانكشاف على مخاطر أي أزمة ماليّة عالميّة مقبلة، بما يشمل المخاطر المتصلة بقيمة الدولار وسندات الخزانة الأميركيّة على المدى البعيد.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية