محمد حميدي وإرث مدرسة الدار البيضاء
عربي
منذ أسبوع
مشاركة
تبدو أعمال الفنان المغربي محمد حميدي (1941 – 2025) الذي رحل الاثنين الماضي، شديدة الارتباط بالمكان الأول؛ المغرب، بألوانه الترابية، بزخرفته الشعبية، بذاكرته الجماعية، إذ ينظر إلى تجربته بوصفها إحدى التجارب التي صاغت ملامح لغة بصرية مغربية جديدة تربط الفن بمفاهيم الهوية والذاكرة والجمال في ستينيات القرن الماضي.  ارتبط اسم الراحل حميدي بمدرسة الدار البيضاء، التي أعادت تعريف علاقة الفن بالمجتمع، وأعطت للحداثة المغربية نبرتها الخاصة، ضمن سياق "فن ما بعد الاستعمار"، حيث يلتقي الحرف بالخط، والجسد بالهندسة، والذاكرة المحلية بالحداثة الأوروبية. حين دخل حميدي مدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء في الخمسينيات، كان المشهد التشكيلي المغربي لا يزال يبحث عن نفسه. وحين غادر إلى باريس عام 1959، اكتشف أدوات الخروج عن الأكاديمية الغربية، وعاد بعد سنوات محمّلاً بأسئلة لا تقل كثافة عن ألوانه. عام 1967، استقر مجدداً في مدينته، وتبلورت رؤيته مع مجايليه فريد بلكاهية ومحمد شبعة ومحمد المليحي، حيث لم يكن طموح هذا الجيل أن يكتفي بالتجريب في المرسم، بل أن يعيد الفن إلى الحياة اليومية.  تبلورت رؤيته مع مجايليه فريد بلكاهية ومحمد شبعة ومحمد المليحي   في معرض "البيان" الشهير بساحة جامع الفنا في مراكش عام 1969، خرج حميدي ورفاقه إلى الشارع حاملين لوحاتهم، في فعل بدا أقرب إلى ثورة جمالية، الفن لم يعد محصوراً في الجدران البيضاء للغاليريهات. تلك التجربة لم تكن مجرد عرض جماهيري، إنما إعلان عن أن الجمال المغربي بإمكانه صياغة حداثته الخاصة دون وساطة غربية. في أعماله، تتحول الأشكال إلى كائنات رمزية؛ أجساد بلا ملامح ومنحنيات حارة وألوان تلامس حدود الإيروس والخصوبة. لا يرسم حميدي الجسد ليكشفه، بل ليعيد إليه طاقته الأولى دفء الأرض، توتر الحركة، وانسياب الضوء. لذلك تبدو لوحاته، التي تجمع بين التجريد والزخرفة، كأنها كتابة بصرية عن الكينونة نفسها. الأزرق لديه إحساس باللانهاية، والبني جذر للأرض، والبرتقالي احتفال بالحياة. بالتوازي مع ممارسته الفنية، ساهم حميدي في تأسيس الجمعية المغربية للفنون التشكيلية سنة 1972، في محاولة لتوسيع الحوار بين الفنانين المغاربة والعرب، إيماناً منه بأن الحداثة ليست مشروع فرد، وإنما حوار مفتوح بين التجارب. وفي سيرته أيضاً محطات أخرى أقل شهرة، لكنها كاشفة: ورش فنية في مستشفى الأمراض العقلية بمدينة برشيد، ومعارض متنقلة في مدن صغيرة، وأعمال مشتركة مع فنانين من العراق وتونس والجزائر. وتعرض لوحاته اليوم في متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر بالرباط، وفي مركز بومبيدو في باريس، وفي مؤسسات عربية من بيروت إلى الشارقة. في جنازته، التي أُقيمت، الثلاثاء الماضي، في مقبرة الرحمة بالدار البيضاء، قال ابنه كريم: "كان يحب أن يرى الناس مبتسمين". عبارة تختصر مسار فنان آمن بأن الفن يتعدى كونه ترفاً، باعتباره شكلاً من أشكال العيش.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية