
عربي
ارتبط الوعي البشري باللغة التي أصبحت أداةً لتحديد الفوارق بين الإنسان الناطق العاقل وباقي المخلوقات في كوكب الأرض، فاللغة ليست مجرّد كلمات يمكننا النطق بها، بل هي أيضاً هُويَّة ثقافية واضحة وموقف مُعلَن من الحياة. وكلّما ازداد الوعي البشري وازدادت قدرة الإنسان على استخدام ما لم يستخدِم من دماغه، ازدادت قدرة اللغة على التكيّف مع هذه المتغيّرات، تتسع أو تختزل حسب مرونة الناطقين بها وانفتاحهم على الكون. ولطالما كانت اللغة موقفاً من العالم، كلّما علت النبرة وحملت صفة الاحتجاج تحوّلت اللغة أداةً طيّعة ضدّ كل ما ينتزع إنسانية الإنسان: الظلم والقهر والحروب والاستبداد... إلخ. وبالعكس، يسعى المستبدّون (في السياسة والدين والمجتمع) إلى تدمير اللغة وتحطيمها لكسر قدرتها على الاحتجاج، ويستبدل بها "الصمت الداخلي"، فيفقد الإنسان قدرته على إيجاد الكلام المناسب للتعبير عن احتجاجه ضدّ الظلم.
تتجلّى اللغة وتزدهر وتتغيّر كلما كان المجتمع حرّاً ومتخفّفاً من القيود السياسية والمجتمعية الدينية. تحاول سلطتا السياسة والدين تدجين اللغة ووضعها في قالب التقديس، لتبقى عاجزةً عن مواكبة حداثة العقل والجسد والفكر. في المجتمعات الحرّة، لا أحد يفكّر باللغة بوصفها قيمةً مبجّلةً لذاتها، بل قيمتها في قدرة الناطقين بها على اللعب بها كما لو أنها عجينة مطواعة. تتطوّر اللغة بهذا اللعب الجميل. تتطوّر وتصبح أكثر مرونة للتعبير عن الرأيين، الجمعي والفردي، بما يحدث للمجتمع نفسه أو للعالم ككل. أمّا في المجتمعات القمعية، فإن اللغة تضيق، ليس بسبب السعي إلى اختزالها من الناطقين بها، بل بسبب الخشية، إذ يحوّل الخوف اللغة صندوقاً مقفلاً لا يجوز لأحدٍ محاولة فتحه، وإلا اعتبر خارجاً عن الإجماع، هنا يتحوّل الصمت عادةً، لياقةً اجتماعيةً، يتحوّل إلى "اللاموقف" الذي يفسّره الإجماع بالعقلانية؛ فالاحتجاج والكلام خطأ وتهوّر، بينما الصمت فضيلة وحكمة. تنتج المجتمعات الخائفة ثقافة الصمت، لا بقوّة الاستبداد فقط، بل هي تنتجها بذاتها، تعيد صياغتها في المجتمعات الصغيرة، في البيوت والمدارس والجامعات وأماكن العمل. تنتجها في الدوائر التي يتحرّك فيها المجتمع، بما فيها الدوائر المُعارِضة للاستبداد التي تتذرّع بالواقعية السياسية لتحطيم اللغة المُحتجَّة والمُعترِضة.
حين تسود ثقافة الصمت وتكفّ اللغة عن أن تكون أداةَ احتجاج وصرخةً ضدّ الاستبداد، تسود ثقافة التواطؤ مع الأنظمة المستبدّة، وتصبح ثقافة الصمت متهمةً بالتحالف مع الاستبداد. لا توجد براءةٌ في الصمت الجمعي كما يروّج، فثقافة الصمت تجعل المجتمع منحازاً للاستبداد، وتجعل منه شريكاً في القمع والظلم، خصوصاً حين تدخل النخب المثقّفة والمعارضة في معطف الثقافة السائدة نفسها، فالمثقّف الصامت يرسخ في المجتمع عكس ما تحاول الثقافة نفيه، الثقافة صرخة قوية ضدّ الجهل والخنوع والتخلّف والقمع، صمت المثقّف هو ترسيخ للقمع، وبالتالي، ترسيخ لكل نتائجه مثل الجهل والتخلّف والخنوع. صمت المثقّف جريمة، فهو بصمته يتخلّى عن دوره في فضح الاستبداد ويساعد الأنظمة في ترسيخ سلطة القمع التي تبسطها على كل فئات المجتمع، بمن فيهم فئة المثقّفين، الذين يتحوّلون من ضحايا القمع إلى حرّاسَ له، حراس للأنظمة القمعية وحامين لها.
لا يعني التحذير من تسيّد ثقافة الصمت وتدمير اللغة مطلقاً الصراخ في الفراغ والمغامرة غير المحسوبة للأفراد وللمجتمع. وأيضاً، قد لا تقدّم اللغة المُحتجَّة حلولاً تساهم في رفع الظلم وإيقاف تسيّد القمع، لكنّها حتماً فعل مقاومة ضدّ اعتياد الخنوع والرضوخ والقبول بكل ما يقدّمه الاستبداد. التحذير من ثقافة الصمت هو استعادة لمعنى اللغة ولجوهر الثقافة. حين يحتجّ المثقّف ضدّ القمع والاستبداد، حتى لو ضاع صوته في ضجيج صمت المجتمع، فهو بذلك يعيد إلى اللغة حيويتها ودورها في الوعي والفعل، لأن الصمت خيانة للوعي الذي يحمل مسؤولية الكلام. في كتابه "الإنسان المتمرّد" يربط الفيلسوف والأديب الفرنسي ألبير كامو بين التمرّد والكلام، ويرى في السكوت "تخلّياً عن الإنسانية" التي يكمن جوهرها في الحرية: "أول خطوة نحو الحرية هي قول لا". المثقّف وجد ليقول "لا"، ووسيلته هي اللغة.
