
عربي
على مدار أعوام خلت، احتفت القاهرة وما تزال بذكرى حرب السادس من أكتوبر 1973، وفي غضون ذلك أحاطت وكرمت كل من كان له دور في مواجهة العدو أو ضرب منهم كل بنان، وفق ما يتراءى في حفاوة أفلام وثائقية ولقاءات تلفزيونية مفصلة حصرت بؤرة الاهتمام في ما له صلة بأدوات "القوة الصلبة"، بينما تعاطت هامشياً مع أبرز وسائل "القوة الناعمة"، تحديداً الإعلام، وكان هو الآخر قد تعرض لنكسة في حرب 1967، جعلت منه مثار سخرية إسرائيلية سبقتها نكات مصرية وعربية تهكمت على أدائه التضليلي الكاشف عن أزمة ثقة أفقدته كل ما له صلة من قريب أو بعيد بمفهوم المصداقية، فلم يستعدها إلا وقد دار الزمان دورته على الجانبين ليصر المصريون وقتها على تحري الدقة الكاملة في كل خبر يخص الحرب وتنقله وسائطهم المقروءة والمسموعة والمشاهدة، حتى أن الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة وأبرز القادة المشاركين في المعركة أصر على وزير الإعلام نشر حقيقة وضع ثغرة الدفرسوار، بعدما قرأ خبراً في صحيفة الأهرام قلل من خطرها، مدعياً بأنها مجرد سبع دبابات متسللة سيتم التعامل معها ودحرها، فكان له ما أراد.
على المقلب الآخر، حجب الإسرائيليون الحقيقة عن شعبهم بانتهاج استراتيجية "التهوين والتعتيم" (نرى ذلك بأعيننا منذ السابع من أكتوبر 2023)، ليستمر التلاعب بالعقل الجمعي عبر الصحف التي لبت أوامر الرقابة العسكرية فأضحت نشرات تعدد "بطولات الجنود" وتشيد بـ"صلابة الجبهة الداخلية" وتستخدم مصطلحات مثل "تراجعت" قواتنا بدلاً من "الانسحاب"، كما توقف البث التلفزيوني المعتاد وتحول إلى بيانات مقتضبة أصدرها الناطق باسم الجيش، قوامها "نسيطر على الموقف" بدون أي ذكر للخسائر بل جرى نفيها، قبل أن يتحول الأمر لاحقاً إلى اعتراف تدريجي وصادم على غير إراداتهم أو من باب الشعور بالذنب والتحول إلى مصارحة الشعب بحقيقة الوضع، وإنما على إثر لقاءات إذاعية مع الأسرى بثتها إذاعة "كول كاهير" أو صوت القاهرة الموجهة باللغة العبرية وكانت قد بدأت العمل في عام 1953 عبر كوادر فلسطينية وبفترة بث بسيطة، لاحقاً جرى مدها لتصل إلى 16 ساعة وقت الحرب اعتماداً على كوادر مصرية أجرت لقاءات مع الأسرى بعدما أنكرت إسرائيل وجودهم، ومن أبرزهم الكولونيل عساف ياجوري ليفقدوا الثقة في ادعاءات إعلامهم وقياداتهم، ضمن عملية تفعيل لتقنيات الحرب النفسية، فيبعث أحدهم لابنته بتهنئة عيد ميلادها عبر الأثير، ويطئمن آخر ذويه بأنه على قيد الحياة ويحلم بلقائهم، وغيرها من آليات التأثير والنفاذ المجتمعي، أي أن الإذاعة تمكنت من كسر جدار الصمت الحديدي المفروض على الإسرائيليين، واكتسبت جمهوراً بينهم، فماذا جرى لاحقاً؟
كالعادة، بدلاً من أن تطوير التجربة والمحافظة عليها، ما أن بدأت مصر مسار السلام المؤدي إلى "كامب ديفيد" حتى تراجعت الإذاعة ولم يعد لها أى تأثير، ولسان الحال يقول "تلك أيام قد خلت" بينما العدو ملتزم بـ"طريق ذات الشوكة"، مهدداً الجيمع وليس مصر وحدها، وعوضاً عن وضع استراتيجية إعلامية تستفيد من كل عناصر القوة الشاملة، وصل بث الإذاعة اليوم إلى خمس ساعات فقط، وما يثير الدهشة استمرارها في العمل بهذه الطريقة الحجرية وكأن الإنترنت لم يخترع بعد، أو أن البلاد لا حاجة لها بها، على الرغم من أن بها كادراً متميزاً من المتخصصين في كافة شؤون المجتمع الإسرائيلي، بالتأكيد يمكن الاستفادة من خبراتهم وأدائهم إن تم تحويله إلى منصة رقمية موجهة عبر مواقع التواصل أو تطبيق تليغرام المنتشر في إسرائيل، أو من خلال تطبيق مخصص للهواتف الذكية، وأضعف الإيمان بثها عبر "يوتيوب"، لتجابه إن تم ذلك بمفردها عشرات الصفحات الإسرائيلية الموجهة باللغة العربية، مستهدفة شرائح عراقية ويمنية وسورية ومصرية تسعى إلى خلق جسور معهم عبر الفن والطعام والذاكرة، وصفحات تحظى بتفاعل واسع عبر بث الشائعات وتأجيج الصراعات العربية البينية مثل إيدي كوهين (شارك في رواج ترند أين الملك عبدالله) ومئير مصري وأفيخاي أدرعي وإسرائيل بتتكلم بالعربية والتي يصل إلى عددها 30 منصة تؤكد دراسات تحليل المضمون أنها نشطة في تفكيك السرديات العربية القومية والدينية عبر استراتيجية "الهندسة الإدراكية".
لا يهرول "الضبع" عبثاً، كما يقول المثل الشعبي بتصرف، وكل تلك المنصات والصفحات باللهجات المحلية العربية، والمؤثرين الرقميين، ووسائط الإعلام التلفزيونية (موقع i24NEWS Arabic ) وقناة وراديو مكان وحتى الصحف ومواقعها التي تستهدف جمهور لغة الضاد مثل تايمز أوف إسرائيل وهآرتس بالعربية ليست من أجل سواد عيون العرب، ولا يوجد على الضفة المقابلة سوى موقع وفا (وكالة الأنباء الفلسطينية بالعبرية) وبالطبع كأي إعلام رسمي حكومي أظن أنه لا يوجد إسرائيلي واحد قد سمع به، ولا يوجد له على ما تؤول إليه التجارب الشبيهة وجود على منصات التواصل لنقل المعركة الإعلامية إلى عقل ونفس وروح الخصم، وتقليد أساليبه الموجهة والعاملة علينا، غير أن ثمة تجربة بسيطة الإمكانيات، فقد أطلق موقع الخنادق اللبناني نسخة بالعبرية، ولها وجود مقبول على السوشيال ميديا، تحديداً في تطبيق تيك توك، بينما بقية المنصات لا يوجد تأثير يذكر لها، وهو ما يقتضي تفسير إهمال هذه الساحة التي فعلتها دولة الاحتلال حتى قبل إعلانها، عبر مذيع كانت له شعبية بدأ عمله في 1947 وانتحل اسماً عربياً داوود الناطور، ليذيع نشرات إخبارية وتعليقات وتحليلات باللغة العربية بثتها راديو الهاغاناه، مستخدماً العامية ومقدماً نفسه قروياً بدوياً ليميز نفسه عن الإذاعات السائدة ولغتها الفصحى الرصينة التي لا يفقهها ولا يفهمها سوى المتعلمين والمثقفين، وكانوا قلّة، بينما "عمد هو إلى اختراق أذهان الجميع" كما نقل وثائقي "فرق موسيقية" راوياً تجربته الناجحة بمعايير زمنها في الوصول إلى عقول المصريين والأردنيين والسوريين والعراقيين، من خلال صوت إسرائيل بالعربية مستعيناً بالأمثال وقصص التراث والمغازي الساخرة من سطوة الحكام وتجبر السلاطين، وكل هذا تقول بروريا ناوي أرملته (اسمه الحقيقي إلياهو ناوي) يدخل ضمن آلية عمل شارك فيها "الموساد" طالباً منه قراءة رسائل مكتوبة وموجهة.
إنها ليست مصادفة فالمؤسس الأول للحركة الصهيونية الحديثة ودولتها بعد ذلك "الصحافي" ثيودور هرتزل، كان قد كتب في افتتاحية العدد الأول من أسبوعية الحركة "دي وولت"، الصادرة في 3 يونيو/حزيران عام 1897 بأنه: "على هذه الجريدة أن تكون سلاحاً للشعب اليهودي ضد أعدائه"، وهو ما يقوم به "أحفاد الناطور" حتى اليوم، ولا غرو لأن الأمن الإعلامي القومي أحد عناصر القوة الوطنية الشاملة في أي دولة بحسب مفاهيم العلوم الاستراتيجية، ولا يقل أهمية عن تلك العسكرية والسياسية والاقتصادية والجيوستراتيجية والبشرية والثقافية، كما لا تأتي الهمينة الإعلامية من فراغ، إذ تتداخل مع كل مجالات عمل الدولة على أرضها أو في ما تعتبره مجالها الحيوي وتستهدف التمدد إليه أو اختراقه التأثير فيه. يتضح ما سبق لدى تنزيله على مفهوم الدولة في نظرية الجغرافيا السياسية التي صاغها العالم الألماني ومؤسس هذا العلم، فريدريك راتزل، واصفاً إياها بـ "كائن حي يحتاج إلى التوسع في محيطه الجغرافي الحيوي من أجل بقائه وتأمين مصالحه"، ويتبدى ذلك جلياً في أفعال إسرائيل العدوانية المتماهية مع القانون السادس من تطور الدول الذي وضعه ضمن نظريته، مفسراً عدوى التوسع والضم، من خلال ما يرى أنه "ملامح تطور الدولة المحكوم عليها بالتوسع إذا ما كان جيرانها أقل تحضراً منها، فتحمل أفكارها إلى الجماعات البدائية المحيطة بها"؛ وهكذا يرانا الاحتلال سواء أسر القول أو جهر به.

أخبار ذات صلة.

غوغل توقف مشروع حماية الخصوصية في الإعلانات
العربي الجديد
منذ 13 دقيقة