
عربي
عُرف الكاتب الهنغاري، لاسلو كراسناهوركاي، الذي أعلنت الأكاديمية السويدية، أمس الخميس، فوزه بجائزة نوبل للآداب لعام 2025، إنسانياً بلباسه الأسود الدائم، وأدبياً بأسلوبه السردي الكثيف والدوّار، حيث تمتد جمله على صفحات طويلة بلا توقف، كما لو كان يملي على القارئ نَفَساً واحداً في مواجهة نهاية العالم.
في هذا النفس الطويل، تنكشف رؤية أدبية تجعل من الرعب والخواء فعلاً جمالياً، ومن الأدب خلاصاً مؤقتاً في مواجهة العدم والرؤية العبثية. لهذا السبب تحديداً، قررت الأكاديمية السويدية منحه جائزة نوبل للآداب لهذا العام، لأن "عمله الآسر والرؤيوي يؤكد من جديد قوة الفن"، فهو، كما جاء على لسان لجنة نوبل "كاتبٌ ملحميٌّ عظيم ينتمي إلى التقاليد الأدبية لمركز أوروبا، الممتدة من كافكا إلى توماس برنهارد، وتتميز بالعبثية والمبالغة الغروتسكية".
وُلد كراسناهوركاي عام 1954 في مدينة جيولا الهنغارية، لأسرة يهودية من الطبقة البرجوازية، وبدأ مسيرته الأدبية منتصف الثمانينيات بروايته الشهيرة "تانغو شيطاني"، التي سرعان ما وضعته في مصاف كبار الأدباء في أوروبا الشرقية. لاحقاً توالت أعماله مثل "كآبة المقاومة" (صدرت النسختان العربيّتان للروايتين عن دار التنوير بترجمة الحارث النبهان) وغيرها من الأعمال التي حددت موقفه من الكتابة والأدب والثقافة بشكل عام، خصوصاً في عالم يعيش في سباق محموم من المعلومات والتسارع.
تدور أحداث روايته "تانغو شيطاني" (صدرت الترجمة العربية بعنوان "تانغو خرابي") في قرية مجرية موحلة ومنسية، حيث يعيش مجموعة من البشر المنهارين في عزلة خانقة، إلى أن يظهر رجل غامض يوهمهم بالخلاص. تتحول القصة إلى رقصة شيطانية بين الأمل والخداع، بين الإيمان بالمعجزة والانهيار النهائي.
يكتب أدباً بطيئاً قادراً على التنفس في هذا العالم المتسارع
أما في روايته "كآبة المقاومة"؛ التي تُعتبر أبرز أعماله وأكثرها شهرة عالمياً، فيروي لنا عن مدينة هنغارية صغيرة، يصل إليها سيرك غريب، ترافقه جثة حوت عملاق، فتبدأ الفوضى بالتحرك في أعماق السكان. خلف هذا السرد الرمزي تختبئ رؤية فلسفية مريرة عن السلطة والجماهير والخضوع. يقول الكاتب عن هذه الرواية إنه "كتبها لا عن الشيوعية وحدها، بل عن الطبيعة البشرية ذاتها: العجز عن الحرية والخوف من المسؤولية. إنها رواية تكشف كيف يمكن لجماعة بشرية أن تستسلم للجنون الجماعي، وهي في جوهرها تأمل في المصير الأوروبي بعد انهيار الأيديولوجيات".
إلى جانب هذه القضايا الكبرى التي يعالجها الكاتب في أعماله، والتي يقول هو نفسه عنها إنها تنتمي إلى "الأدب البطيء"، الأدب الذي يتنفس على مهل، ويتعمّق حتى الجذور في التجربة الإنسانية، لم يتوقف صاحب "حرب وحرب" عن نقد بلده، بل إنه يعيش خيبة أمل كبرى فيه منذ زمن الشيوعية، ولم يُفاجأ بعجز بلاده عن بناء ديمقراطية حقيقية. يرى أنها اليوم تعاني من انغلاقٍ وجبنٍ جماعي. يقول: "نحن نتجنب الصراع، نهرب من المواجهة حتى تنفجر الأوضاع بعنف. ما ينقصنا هو القدرة على الحوار والاعتراف بكرامة الآخر".
لكن هذه الأزمة التي تعيشها بلاده ليست هنغارية. إنها ظاهرة عالمية. فحتى أميركا، بالنسبة له، فقدت مثاليّتها، وتحوّل العجز إلى غضب، فصعدت الشعبوية، لا بسبب زعيم واحد، بل بسبب الناس أنفسهم الذين تحوّلوا.
هذا تحديداً ما يعالجه في روايته "حرب وحرب"، التي تتبع موظفاً بسيطاً، يكتشف مخطوطاً غامضاً ويقرر أن يخلّده عبر الإنترنت قبل أن ينهي حياته. هنا ينتقل الكاتب من القرية المحلية إلى القرية العالمية، باحثاً عن الخلود في زمن الرقمنة والعبث.
وجد في الشرق توازناً لما يراه من اضطراب في الغرب
في روايته "البارون وينكهايم يعود إلى الوطن"، وبمزيج من السخرية واليأس، والفلسفة والتاريخ، يروي قصة نبيل هنغاري يعود منفياً إلى بلدته بعد سنوات، فيُستقبل كمخلّص روحي، لكنه سرعان ما يصبح رمزاً للخديعة الجماعية والانهيار الأخلاقي. أما في "إلى الشمال الجبل، إلى الجنوب البحيرة، إلى الغرب الطريق، إلى الشرق النهر" (2003)، فيستلهم رحلاته في اليابان وتأثّره بالثقافة الشرقية والفنغ شوي، ويحكي عن سعي رجل إلى حديقة أسطورية يابانية تمثل الجمال الكامل والسكينة المطلقة، في عمل قصير يُظهر الوجه التأملي من الكاتب، الذي وجد في الشرق توازناً لما يراه من اضطراب في الغرب.
بهذه الروايات وغيرها، والتي يتقاطع فيها مع كافكا في العبث واليأس، ومع توماس برنهارد في السخرية السوداء، ومع الأدب الشرقي في التأمل الهادئ والرغبة في الفهم، يفوز الهنغاري بجائزة نوبل للآداب لعام 2025، لأنه أعاد للكتابة دورها الأصلي: أن تجعلنا نرى العالم كما لو أننا نراه للمرة الأولى، ببطءٍ ودهشة وصدق. فالإبداع، كما يرى كراسناهوركاي لم يعد يقود المجتمع كما في مطلع القرن العشرين، بل تحوّل إلى سلعة، لكن مع ذلك ثمة هامش من الأمل "لروابط فردية مع الجمال، مع المعرفة، مع العالم".
يردد الكاتب المجري دائماً في لقاءاته الصحافية القليلة أنَّ الناس كثيراً ما يخطئون في نطق اسمه، فيسمّونه أحياناً "كلاشنيكوف"، ويعلّق على ذلك مازحاً "قولوا لهم لا توجد رصاصة في هذا الكلاشنيكوف. إن رصاصي أدبي لا غير". بعد نوبل للآداب، لن يخطئ أحد اسمه، خصوصاً دور النشر.

أخبار ذات صلة.

تحدّيات لا بد من مواجهتها
العربي الجديد
منذ 24 دقيقة

اللاتواصل في زمن التواصل
العربي الجديد
منذ 25 دقيقة

أيام الجوع العالمية في غزّة والسودان
العربي الجديد
منذ 25 دقيقة