
عربي
عاد سوق سور الأزبكية للكتاب في قلب القاهرة إلى الحياة من جديد، كما كان منذ تأسيسه عام 1907، بعد عقود من التشرذم بين الخيام والأكشاك التي ملأت ميدان العتبة الشهير وسط العاصمة. لم يكن سور الأزبكية، الذي يضاهي محلات بيع الكتب عند برج إيفل في باريس، مجرد سوق للكتب، بل كان ذاكرةً حيّةً تتنفس بالحبر والورق، تختزن أصوات المثقفين وطلاب الجامعات والعشاق الباحثين عن رواية منسية أو ديوان مطبوع على ورق أصفر تفوح منه رائحة الزمن.
ظل سور الأزبكية يلتف حول الحديقة التي أسسها الخديوي إسماعيل، حفيد محمد علي باشا مؤسس الدولة الحديثة. أرادها الخديوي متنزهاً لعامة الشعب على غرار حديقة اللكسمبورغ في باريس، فغدت فضاءً للمتعة والراحة، وملاذاً لمن يريد أن يجد نفسه في كتاب.
واليوم، مع عودته من جديد، أنشأت محافظة القاهرة سوراً جديداً على الناحية الشرقية للحديقة، ضمن مشروع واسع لتطوير القاهرة الفاطمية والخديوية التي مضى على بنائها أكثر من 150 عاماً. وقد سلّمت المحافظة 135 محلاً (كشكاً)، تتراوح مساحاتها بين خمسة وعشرة أمتار، بعد إزالة السوق العشوائي الذي كان يحيط بالمكان. لكن الباعة سرعان ما اكتشفوا أنهم استلموا أكشاكاً أنيقة وحديثة، غير أنها باردة كالمكاتب الحكومية، مرتفعة الإيجارات والأسعار، ومعزولة بأسوار حديدية محصّنة، وهو ما أفقدها التواصل مع الناس والروح التي كانت تمنح السور القديم نبضه.
رغم فرحة الباعة، الذين اعتاد الزبائن مناداتهم بأسمائهم منذ عقود، وهم يتوزعون بين المحلات الخشبية المزخرفة والأزقة الضيقة التي تحمل أسماء كبار الأدباء المصريين، مثل نجيب محفوظ ويحيى حقي وتوفيق الحكيم وصنع الله إبراهيم وزكي نجيب محمود، فإنهم صاروا يروون بحزن كيف ضاقت عليهم محلات السور بما رحبت. فلا دورات مياه متاحة، ولا مصدر يشربون منه كوب ماء، ولا مقهى يخدمهم، ولا حتى مظلات تحميهم من لهيب الشمس أو من الأمطار في فصل الشتاء.
أغلقت السلطات بوابة محطة مترو العتبة، التي كانت تصل رواد سور الأزبكية بالميادين الكبرى المجاورة للحديقة، مثل الأوبرا والعتبة، وبشبكة النقل التي تربط المترو بأنحاء العاصمة والمحافظات. وأجّرت المساحة المخصصة للمرور لمحلات تبيع الملابس وبطاقات شحن الهواتف وبعض المسليات، بطريقة عشوائية تهدد أمن المترو والمواطنين، وتجعل مرورهم صعباً نحو إحدى المحطات الرئيسية التي تجمع أكبر خطين للمترو وتمثل شبكة مواصلات حيوية بين أحياء القاهرة.
لم تترك محافظة القاهرة لرواد سور الأزبكية للكتاب سوى ممر ضيق تبتلعه أمواج الباعة الجائلين والعشوائيات التي ترهب الزوار وتُبعد الباحثين عن الكتب الرخيصة والنادرة. وهكذا غدا السور الجديد أشبه بجزيرة معزولة عن جمهورها الطبيعي، وأقرب إلى معرض موسمي بلا زوار.
ومع ذلك، يتحلّى أحمد هاشم، أحد الفائزين بكشك لبيع الكتب التراثية، بالصبر والأمل، مؤكداً لـ "العربي الجديد" أن "سور الأزبكية يسكن قلوب المصريين وذاكرتهم"، إذ اعتاد الناس الكتب مفروشة على الأرض بلا حواجز ولا واجهات زجاجية، والمساومة جزء من المتعة، والفرحة بالعثور على كتاب نادر أو مفقود كنز حقيقي. ويأمل هاشم أن يستعيد السور ماضيه، حين كان طلاب العلم يقصدونه لاكتشاف عوالم جديدة بين صفحات الكتب، وحين كان يعرف زبائنه واحداً واحداً بالاسم.
يقول ممدوح (56 عاماً)، أحد الباعة الغاضبين من القيود المفروضة على السور: "أتمنى أن يتحرك المسؤولون سريعاً لإنقاذ المحلات التي بقيت معطلة منذ شهرين حين استلامها، بسبب ندرة المشترين وصعوبة الحياة وسط تلال المشاكل اليومية. فنحن ندفع إيجاراً شهرياً لا يقل عن ألف جنيه، من دون أن نحصل على عقود إيجار أو تمليك تضمن لنا استخراج السجلات التجارية والضريبية، أو حتى البقاء في الأماكن التي منحتها لنا الدولة مقابل تسليم محلاتنا القديمة".
باتت أمنية ممدوح أن يعود الناس إلى سور الأزبكية ليلمسوا أغلفة الكتب، تلك التي تحوّل الكتاب إلى كائن حي، وتجعل من السوق ملتقى اجتماعياً وثقافياً، لا مجرد مساحة معزولة للبيع والشراء ينقضي يومها باختفاء شمس الأصيل، وتضيع ملامحها وسط عتمة ليل القاهرة. ويذكر ممدوح بأسى أن تطوير سور الأزبكية من حيث الشكل كان خطوة عظيمة، لكن الحداثة إذا فقدت روح المكان تحوّلت إلى غربة باردة. فالسور، مهما تجددت جدرانه، سيبقى في وجدان المصريين كما كان دائماً: كتاب على الرصيف، وبائع يستقبل القارئ بترحاب، ووجه يضيئه الفرح عند العثور على كنز بين أكوام الكتب.
يخشى باعة الكتب القديمة أن يتركهم المسؤولون عالقين بين ركام مشاريع التطوير المحيطة بحديقة الأزبكية والعشوائيات لفترات طويلة، قد تمتد أشهراً أو حتى سنوات، من دون إدراك أنهم أصبحوا معزولين عن القرّاء والمشترين. هذا الوضع يثقل كاهلهم بتكاليف مالية إضافية، وقد يدفعهم إلى رفع أسعار الكتب على جمهورهم الذي ينتمي في معظمه إلى الفقراء وذوي الدخل المتوسط. وكما يقول أحد الباعة: "هؤلاء هم زبائننا الذين حُرمنا من لقائهم في الموقع الجديد، لا نريد أن نحرمهم من القراءة أو نحمّلهم أعباءَ جديدة".
وتثير معاناة الباعة مخاوف المتعاملين في سوق الكتاب القديم، الذي شكّل لسنوات ملاذاً أساسياً للأسر في الحصول على الكتب الدراسية المستعملة، وأصبح العمود الفقري لكثير من المكتبات. أما إذا ارتفعت أسعار هذه الكتب أيضاً، فقد يؤدي ذلك إلى ابتعاد الجمهور أكثر عن سور الأزبكية.
تبدو أكشاك الكتب الجديدة منظمة وأنيقة، لكنها تفتقد رائحة الورق القديم وصخب المساومات. ينظر الباعة إلى المستقبل بقلق، بينما تقلّ الكتب المفروشة على الأرصفة، وهي التي لم تكن يوماً مجرد بضاعة، بل جسر يربط الناس بالمعرفة، ويمنحهم لحظات فرح حين يعثرون على كنز ورقي مدفون بين الصفحات.
