
عربي
عاد أطفال سوريون من الخارج إلى مدارس بلدهم بعدما أمضوا سنوات في دول الجوار، ليجدوا أنفسهم غرباء، ما يضاعف شعورهم بالعزلة والارتباك.
بعد سنوات من النزوح والعيش في بيئات مختلفة خارج البلاد، يواجه طلاب سوريون كثيرون عادوا إلى مدارسهم المحلية تحديات كبيرة في الاندماج مجدداً تضاف إلى التجربة القاسية التي مروا بها والفجوة التعليمية التي أحدثتها سنوات الغياب، ما يجعل التحصيل الدراسي مهمة شاقة بالنسبة إليهم، خصوصاً في ما يتعلق بتعلم اللغة العربية التي تمثل أساس العملية التعليمية في البلاد.
يقول محمد حيدر، وهو تلميذ في الصف التاسع عاد أخيراً من تركيا إلى مدرسته في ريف حلب، لـ"العربي الجديد": "اعتدت أن أدرس باللغة التركية منذ سنوات، ما جعلني أنسى الكثير من القواعد الأساسية للغة الأم. وحين عدت إلى سورية والتحقت بالمدرسة وجدت صعوبة كبيرة في متابعة الدروس باللغة العربية، فالمعلمون يتحدثون بسرعة، والنصوص طويلة وصعبة بالنسبة لي. حتى قراءة النصوص أو كتابة موضوع إنشائي أصبحت أمراً معقداً للغاية، وأحتاج أحياناً إلى مساعدة زملائي في أبسط الكلمات".
ويتحدث محمد عن جانب آخر من المعاناة، ويقول: "في تركيا كنت أتحدث العربية فقط مع أهلي في البيت، أما في المدرسة والشارع فكنت أستعمل التركية. الآن أشعر بأنني فقدت ثقتي بنفسي حين أشارك في الصف، إذ أخاف من ارتكاب أخطاء نحوية أو إملائية أمام زملائي، وأحاول كثيراً وبشكل يومي مراجعة دروس إضافية وقراءة قصص قصيرة بالعربية، لكن الأمر يحتاج إلى وقت وجهد كبيرين، خصوصاً أنني مقبل على مرحلة الشهادة الإعدادية التي تتطلب جهداً مضاعفاً".
ولا تقتصر التحديات التي يواجهها التلاميذ الذين عادوا إلى مدارس سورية على صعوبات اللغة وحدها، فعملية الاندماج الاجتماعي والتكيّف مع البيئة المدرسية الجديدة تمثل عقبة ليست أقل تعقيداً.
وتتحدث راميا السعيد، وهي والدة تلميذة عادت من لبنان إلى ريف دمشق لـ"العربي الجديد" عن أن الصعوبات التي تواجه ابنتها في الصف السادس لا تقتصر على اللغة فقط، بل تمتد إلى التكيّف الاجتماعي داخل المدرسة والمجتمع. وتقول: "أمضت ابنتي نحو أربع سنوات في مدرسة بلبنان، واعتادت على نظام تعليمي مختلف وأسلوب تعامل مختلف بين الطلاب والمعلمين، وعندما عادت إلى سورية والتحقت بمدرسة حكومية في ريف دمشق وجدت نفسها في بيئة جديدة تماماً، رغم أنها في بلدها".
تضيف: "في البداية لم تستطع ابنتي إنشاء صداقات بسهولة، وشعرت بعزلة وإنطواء في الصف، إذ بدت غريبة عن زميلاتها حتى في طريقة الكلام والتصرفات، وضاعف اختلاف المناهج الدراسية هذه الأزمة، لأن ابنتي لم تدرس بعض المواد بالطريقة نفسها، ما جعلها تتأخر عن رفيقاتها، وهي لا تزال تحتاج إلى وقت ودعم نفسي وتعليمي كي تشعر بالاندماج الحقيقي في محيطها المدرسي الجديد. فعلياً لم تكن العودة إلى الوطن نهاية المتاعب، بل بداية لتحديات أخرى، وأنا غير قادرة على متابعة دروس ابنتي كما يجب، خصوصاً في اللغة العربية، لأن مناهج لبنان تعتمد بشكل أساسي على اللغة الفرنسية، وقد حاولت تسجيلها في دورات خاصة لكن التكاليف مرتفعة، وفي ظل الظروف المعيشية الصعبة بات الأمر شبه مستحيل".
من جهتها، تقول هبة ناصر، وهي مرشدة نفسية واجتماعية، لـ"العربي الجديد"، إن معاناة التلاميذ العائدين لا تقتصر على الجانب الأكاديمي فقط، بل تشمل مشكلات نفسية وسلوكية. ويشعر كثير من هؤلاء التلاميذ بعزلة وخوف من الفشل بسبب الفجوة التي تفصلهم عن زملائهم في اللغة والتحصيل الدراسي".
تضيف: "يواجه بعض الأطفال صعوبة في التكيّف مع نظام المدرسة الجديد، خصوصاً بعد سنوات من العيش في بيئات تعليمية مختلفة، ما ينعكس على سلوكهم داخل الصفوف عبر الإنطواء أو العزوف عن المشاركة. وغياب البرامج المنظمة للدعم النفسي يزيد حدة المشكلة، إذ يترك المعلمين والأهالي في مواجهة مباشرة مع تحديات تفوق قدراتهم".
وتؤكد هبة أن "الحل يتمثل في دمج الدعم النفسي والاجتماعي ضمن العملية التعليمية، من خلال جلسات إرشاد جماعية وفردية، وأنشطة تفاعلية تساعد التلاميذ على التعبير عن مشاعرهم وبناء الثقة بأنفسهم". وتحذر من أن "عدم الاهتمام بهذا الجانب سيُبقي التلاميذ بحضورهم الجسدي فقط في الصف، في حين تظل عقولهم وقلوبهم خارجه".
ويوضح سامي الدبس، وهو مدرس لغة عربية في مدرسة بريف حلب، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "العجز اللغوي يمثل العقبة الكبرى أمام التلاميذ العائدين، إذ إن كثيرين منهم لا يعرفون أبسط قواعد الإملاء والتعبير لأنهم درسوا مناهج بلغات أجنبية خلال سنوات النزوح. ولا تنعكس هذه الفجوة على مادة اللغة العربية وحدها، بل تمتد إلى كل المواد تقريباً باعتبار أن العربية الأداة الأساسية للفهم والتقييم داخل الصفوف".
ويشير إلى أن "بعض التلاميذ يعودون من بيئات مضطربة أو ظروف صعبة، ما يجعلهم أكثر حساسية وأقل قدرة على التفاعل مع زملائهم. وهذا يتطلب دعماً نفسياً وتربوياً موازياً للعملية التعليمية كي يستطيع هؤلاء التلاميذ تجاوز شعور الغربة، ويستعيدوا ثقتهم بأنفسهم. والمعلمون لا يستطيعون وحدهم مواجهة هذه التحديات من دون خطط مدروسة تضعها وزارة التربية، وتشمل برامج تقوية لغوية ودورات للدعم النفسي لضمان عدم تزايد الفجوة بين التلاميذ العائدين وأقرانهم".
ويؤكد الدبس الحاجة إلى خطط تعليمية شاملة مع استمرار عودة عائلات سورية إلى مناطقها الأصلية، "كي لا يتحوّل هؤلاء التلاميذ إلى ضحايا مزدوجين للحرب أولاً، ثم لضياع مستقبلهم التعليمي".
وفي سياق التحديات الكبيرة التي تواجه التلاميذ العائدين إلى مدارسهم في إدلب وريفها، يتحدث المسؤول التربوي رياض عساف لـ"العربي الجديد" عن حجم المشكلة والجهود التي تبذلها وزارة التربية والتعليم والمجمعات التربوية ومديريات التربية السورية لمعالجتها من خلال برامج خاصة تهدف إلى دعم اللغة العربية وتعزيز عملية الاندماج. ويقول: "عاد نحو 850 تلميذاً إلى مدارسهم في إدلب وريفها، ويعاني نحو 650 منهم من صعوبات واضحة في اللغة العربية، وفي عملية الاندماج داخل البيئة المدرسية. وهذه المعاناة حقيقية وتؤثر مباشرة على تحصيلهم الدراسي وثقتهم بأنفسهم".
ويذكر عساف أن "وزارة التربية تعمل لتوفير فرص تعليمية تركز خصوصاً على دعم اللغة العربية، عبر تشخيص مواطن الضعف عند التلاميذ العائدين، ثم وضع خطط علاج فردية أو جماعية تراعي الفوارق بينهم. وتركز هذه الخطط على بناء المهارات الأساسية تدريجياً باستخدام استراتيجيات تدريس متنوعة ومحفزة، وتوفير دعم نفسي مواز يعزز ثقة التلميذ بنفسه. ويوضح أن المشروع يشرك أولياء الأمور في العملية التعليمية، ويخصص دورات تدريبية للمعلمين بهدف تنمية مهاراتهم في التعامل مع هذه الفئة من التلاميذ".
ويلفت عساف أيضاً إلى أن "الخطة تتضمن توظيف الأنشطة الإبداعية كأداة تعليمية، سواء عبر الجماعية أو الفردية لمساعدة التلاميذ على تحسين أدائهم التعليمي. ويؤكد أن الدعم النفسي والاجتماعي ركن أساسي في هذا التوجه لتعزيز الثقة بالنفس وتجنّب مشاعر الإحباط التي قد تسيطر على التلاميذ عند مواجهتهم صعوبات دراسية". ويشرح أن "غالبية التحديات التعليمية تتمثل في ضعف المخزون اللغوي وصعوبة نطق الحروف والكلمات بشكل صحيح، ما يستدعي استخدام أساليب تشجيعية تعتمد على عبارات التقدير والتكريم والإشادة عبر وسائل التواصل المدرسي عند إظهار أي تحسّن. كما تنظم المدارس دورات تدريبية للمعلمين حول طرق علاج التلاميذ ذوي المستوى الضعيف لغوياً، وتطوّر وتقيّم المناهج دورياً كي تتناسب مع مستويات التلاميذ وتلبي احتياجاتهم".
وتركز الخطة الحالية على إنشاء مراكز تدريبية تعويضية أطلق عليها اسم "جسور التعليم"، وتخصص للتلاميذ الضعفاء، يشرف عليها مدرسون متخصصون يتحدثون لغة عربية سليمة. وتنفذ داخل هذه المراكز أنشطة عملية مثل قراءة قصص قصيرة وحكايات تهدف إلى تعزيز المهارات اللغوية لدى التلاميذ.
ويختم بتأكيد أنّ "العقبة الأبرز تكمن في حالة الانعزال التي يشعر بها التلاميذ العائدين من بلاد الغربة، إذ يجدون أنفسهم أمام بيئة مدرسية مختلفة تماماً عن تلك التي اعتادوا عليها" لكنه يشدد على أن تكاتف جهود مسؤولي المدارس والمنزل والدورات التعليمية المساندة يمكن أن تساعد في التغلب على كل هذه العقبات".
