"جيل زد": معادلة مغربية جديدة بأربع نقاط استفهام
عربي
منذ أسبوع
مشاركة
يطرح خروج شبيبة المغرب إلى الشارع من أجل التظاهر، تحت راية "جيل زد"، معادلةً اجتماعيةً سياسيةً، مؤسّساتيةً وخارج مؤسّساتية. ذلك أن الاحتجاج الشبيبي، الذي يطرح ثلاثة شعارات كبرى في البلاد، الصحّة والتعليم ومحاربة الفساد، يطرح، في الوقت نفسه، معادلة بأربع نقاط استفهام، أو أربعة عناصر للحلّ. نحن أمام جيل أخرج الغضب من غرف الدردشة المظلمة، إلى ضوء النهار، أخرج المزاج العام من فضاء فيه تتقاطع الروافد التي تغذّيه بين الداخلي والخارجي، بين الواقعي المشروع والمضمر الحامل لبذور الريبة والتوتر، ونقلها من الافتراضي إلى الواقعي. وهو ما يعيد إلى الأذهان دعوات سابقة عرفها المغرب، كباقي الدول، لكن عناوينها المحلّية (مع وجود الفارق طبعاً) كانت حركات الربيع المغربي (20 فبراير/ شباط 2011)، ثمّ الدعوات التي صدرت في سبتمبر/ أيلول 2024 الداعية إلى تنظيم هجرات جماعية باختراق الحدود الفاصلة بين مدينة مليلية المحتلة وبين التراب الوطني. فعل "جيل زد" بالغضب والسياسة ما فعله سقراط بالفلسفة، أي أنزلها من سماء التأطير المؤسّساتي المرتفع، إلى أرض الواقع، المباشر، ووضعها بين يدي شباب أعمارهم بين 15 و24 سنة. جيل تربّى على تاريخ الحرية التي رافقت العهد الجديد وطيّ صفحات الجمر والرصاص، وانطلاق المصالحة على قاعدة إنصاف الضحايا من القمع الذي عرفته البلاد طوال عهد الراحل الحسن الثاني، الذي واجه معادلة مغربية في زمن سحيق، حين طلب من أستاذه في الرياضيات، ومعارضه الأول والأكبر، المهدي بنبركة، أن يحلّها معه. الجيل الجديد، وضع ثلاثية الصحّة والتربية ومحاربة الفساد، ضمن خانة الاستعجال والفورية، من دون معادلة سياسية كبرى. إنه جيل لا يسعى الى التفاوض مع الحكومة، أو يتقدّم بملفّ مطلبي بالطريقة الكلاسيكية، بل إنه يعتبر نفسه في وضع أخلاقي متقدّم مسنود بشرعية المطالب المُعلنة، والمتوافق عليها وطنياً، ويجب تطبيقها في أرض الواقع أو الانسحاب. إنه جيل أخلاقي مائدة التفاوض عنده هي الشارع ولا يعتبر التمرّس السياسي والثقافة التأطيرية ضرورةً في تحقيق العدالة الاجتماعية. لكنّه وجد نفسه في قلب معادلة مغربية رباعية التساؤل. اللحظة السياسية الراهنة تتميّز بسقف انتظارات محدّدة، بعضها قصير المدى، وبعضها طويل المدى، ومن الصنف الأول هناك دعوة الملك إلى فتح النقاش حول تعديل القوانين الانتخابية (انظر للكاتب "الديمقراطية أمام امتحان السياسة في المغرب... الموت أو‮ ‬التدنّي"، العربي الجديد، 23/9/2025). ولعلّ جوهر الدعوة هو بناء أدوات قانونية من أجل مشروعية فوق الشبهات للسيادة الشعبية المطلوبة. خرج الشباب بدعوات التشكيك في الطبقة السياسية، ووصل الغضب إلى حدّ المطالبة بتدخّل مباشر من الملك  وتطرح المسألة حدود التفاعل بين نقاشات الطبقة السياسية والاحتجاج. لا يبدو في الراهن، أن هناك "تراشحاً" بين النقاش المؤسّساتي النخبوي في جوهره وغضب الشبيبة المغربية. والحال أن الطريقة التي تم بها تدبير الاحتجاج، والسقف الموضوع له، يضع فورة الشباب في قلب المشروعية السامية. فهم خرجوا بدعوات التشكيك في كل الطبقة السياسية، بنفحة لا تخلو من شعبوية إيجابية إذا شئنا، من البرلمان إلى الحكومة، ووصلت إلى حدّ المطالبة بتدخّل مباشر من الملك محمد السادس، بما يحيلنا على فكرة الملك الفيلسوف الذي يعرف كل شيء ويحقّق السعادة لشعبه. انتهت المغامرة الغاضبة برسالة إلى الملك من أجل إعفاء الحكومة وحلّ البرلمان، مع ما يرافقها ضمنياً من قرارات جديدة. ولعل الأفق الأقرب إلى انتظارات هذا الجيل هو خطاب الملك في البرلمان، المنتظر في الجمعة الثانية من أكتوبر الجاري في وقت ينتظر المهتمون بالشأن السياسي نسخة المدونة الانتخابية، التي كانت وزارة الداخلية تشرف عليها، ومنحت الأحزاب السياسية أجلاً حتى نهاية أغسطس/ آب الماضي لتسليمها مقترحاتها، على أن تكون المقترحات جاهزة في سبتمبر الماضي. اللحظة السياسية كذلك مشروطة بنداء الملك الصادر في خطاب العرش للقطع مع مغرب السرعتَين، مغرب الحرمان والهشاشة، ومغرب الإنجازات الكبرى. وإذا كان الاحتجاج (في تقدير كاتب هذه السطور) هو محاولة ترجمة النداء الملكي برفض مغرب السرعتَين، فإنه وضع على المحك تفاقم الهشاشات البنيوية وسط قطاع واع من الشباب، وفي مجالات ترابية واسعة. ولعلّ خريطة الاحتجاج بقرابة 30 إقليماً ومدينةً تعطينا فكرةً عن "الإجهاد الترابي stress" ومدى اتساع الشعور العام بالحرمان. كما يحيلنا على التدبير الذي قام به الملك للاحتجاجات السابقة من حيث الزمان والمكان، وفي المطالب. وهنا لا يمكن إلا أن نستحضر حراك الريف في 2017، الذي دام قرابة سبعة أشهر، وانتهى نهاية مؤسّساتية وأخرى سياسية جنائية، ما زالت البلاد ترمّم أعطابها. في الشقّ الأول، أطلق الملك "زلزالاً" سياسياً، يريده كثيرون نمطاً في الحكم للاستجابة لمطالب المجتمع الملحّة. ومن مميّزاته أن الملك أشهد المغاربة على تقصير المسؤولين السياسيين والإداريين، وكان الخطاب بمناسبة عيد العرش (29 يوليو/ تموز 2017)، وفيها استند الملك إلى النصّ الدستوري، تفادياً منه لأسلوب والده الحسن الثاني في مثل هاته الحالات، حيث كانت تحكمه مزاجيته وفهمه السلطاني للمسؤولية الملكية. وتفعيلاً لهذا الزلزال، أو تحضيراً له، طلب الملك من المجلس الأعلى للحسابات، وهو مؤسّسة دستورية ذات طبيعة رقابية، فتح تحقيق يكشف الأعطاب التي رافقت مشروعاً تأهيلياً كبيراً في الريف، تحت اسم "الحسيمة، منارة المتوسّط"، والقرارات لقيت حماس المواطنين وكثير من الفاعلين الإعلاميين والنشطاء... إلخ. بل تحوّل "الزلزال" "مفهوماً سياسياً" يؤطر أفق الانتظار. وقتها سقطت رؤوس وزراء وإداريين ومسؤولين من الدوائر العليا للدولة. وهو ما يجعل منه مرجعاً ضمنياً للمطالب الحديثة بإسقاط الحكومة. ولعلّ المستند فيه هو الفصل 47 الذي يتيح للملك إعفاء الوزراء. ومن الملاحظات في هذا الإطار، أن من تحوّلات اللحظة السياسية أن النقاش بدا واضحاً على لسان الفاعلين السياسيين والإعلاميين حول حقّ الملك من عدمه في إعفاء الحكومة. وهو ما لم يتردّد وزير العدل حالياً في التصريح به في حوار له مع قناة عربية. وقد أفلح الشباب في فرض نقاش سياسي من مستوى عالٍ، وإن كانت معركته لا ترفع شعاراً لها، فتح السجال القانوني أو السياسي أو الدستوري بقدر ما ترفع شعار المحاسبة على قاعدة المطالب الاجتماعية. اللافت أن المحتجّين والسلطات على السواء احتموا بالدستور لتبرير مواقفهم من الاحتجاجات المعالجة في حراك الريف جاءت بعد احتجاج طويل النفس، طال لما يزيد على نصف السنة، وهو خلاف لما وقع في معالجة مطالب 20 فبراير، التي تفاعل معها الملك في ظرف وجيز للغاية. وكانت المعالجة في عمق النظام السياسي، وليس تطبيق بند ربط المسؤولية بالمحاسبة فقط. وكانت نتيجة "الربيع المغربي"، الذي لم يطل سوى أسبوعين إصلاحات أعمق بكثير ممّا كان يسمح به نضال طويل، ولعلّ اللحظة الحالية تحتاج تدبيراً عميقاً يجمع بين سرعة التجاوب، أي تدبير زمني محدود نسبياً، وعمق التجاوب مع الحراك الحالي حول الصحّة والتعليم، وفيه ينتظر الرأي العام تفعيل القدرة المؤسّساتية للدولة لإيجاد الأجوبة عن أسئلة تبدو غير مؤسّساتية. وقد يتم اقتناع رئيس الحكومة بطلب الثقة من جديد لحكومته، ممّا يفتح مجالاً لإعادة تشكليها على إيقاع جديد وبحلّ وسط، باعتبار إكراه الشراكة الدستورية. اللحظة الحالية هي لحظة الدولة الاجتماعية عبر ركيزتين من ركائزها، إضافة إلى محاربة الفساد والشغل.. وفي هذا المطلب، يبدو أن الشباب وضع معادلة "للإقناع أكثر منها للاقتناع، وهي المونديال قبالة الدولة الاجتماعية، بناء على مفارقة، مغرب السرعتين، كما في التعريف الملكي الذي استبق الغضب، وذلك برفض الازدواجية في العيش". والذي لا بدّ من الحديث عنه هو أن الدولة الاجتماعية إذن، تطرح مشكلة عميقة للغاية، تتعلّق بمن ينفّذها. نحن أمام حكومة ذات طبيعة ليبرالية مفتوحة، حتى لا نقول أوليغارشية، جمعت المال والسلطة بشكل يثير الغضب (انظر للكاتب "المال والسلطة... مشاهد الاستفزاز النيوليبرالي"، العربي الجديد، 29/7/2025)، مطلوب منها أن تنزل المشروع الملكي من دون أن يكون في "جيناتها" البعد الاجتماعي. حتى أنه لم يعد سرّاً أن جزءاً من الطبقة السياسية أو المتتبّعين يتحدّثون عن صعوبة "التعايش" كما في التقاليد الفرنسية بين رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة حول المدى المطلوب في الدولة الاجتماعية. ولعلّ طرح موضوعتَي الصحّة والتعليم يستوجب ملاحظتين. أولاهما أن القطاعين تحت سلطة رئيس الحكومة، وحزبه، سيّما منذ التعديل، الذي جرى في منتصف الولاية، وقد وضع في قيادة الوزارتَين شخصيتَين مرتبطتَين به أكثر من ارتباطهما بالقطاع أو الدولة أو مراكز النفوذ. جاء الأول من قطاع الاستثمار في الحلويات، والثاني من شركات تابعة لعائلة رئيس الحكومة. ويبدو أن علاقتهما به علاقة مرؤوسَين برئيسهم أكثر من وزيرَين. والغضب من تخلفهما معني به رئيس الحكومة أكثر من غيره. وقد لاحظ المتتبّعون أن البلاغ الوارد عن الأغلبية التي تشكّل الحكومة حاول أن "يستدرج" قطاعات أخرى، لا توجد تحت مسؤولية حزب رئيس الحكومة، ويديرها الحزبان الآخران في الحكومة، وهما قطاع الشغل والتعمير (الأصالة والمعاصرة) وقطاع الماء (حزب الاستقلال)، فيما يشبه التحالف الحكومي في مواجهة العاصفة. إمّا نسلّم جميعاً أو نسقط جميعاً. اللحظة دستورية، وفي الوقت نفسه، تتعلّق بسلطة الفساد التي يستشعرها الفاعلون الاقتصاديون والفاعلون السياسيون والقوى الحيّة في البلاد، وقد صار له وجه ملموس يتمثّل في زواج السلطة والمال، وكثيرون يرون أن الحكومة تمثّل هذا الزواج بشكل مستفزّ، وصار مطلب الموجة الثانية من الإصلاح الدستوري يتضمّن في جدول أعمالها تقنين هاته العلاقة، ومنع "زنا المحارم الديموقراطي"، الذي يجمع بين سلطة المال وسلطة القرار السياسي، كما تجمعهما الحكومة الحالية. اللحظة السياسية التي ترافق الاحتجاج هي لحظة "دولية" بالنسبة إلى المغرب، ويمكن مقاربتها من مدخلين، وهما، طبيعة المحتجّين وطبيعة الرهان الحقوقي الذي يرافق الاحتجاج. أعاد الاحتجاج إلى الساحة حواراً عاماً غاب منذ سنين عن الفضاء العمومي المغربي لقد كانت لافتةً كذلك تلك السرعة التي تفاعلت بها مؤسّسات الوساطة الاجتماعية في المغرب، التي لها احتكاك متعارف عليه مع الاحتجاج، وهي مؤسّسة الوسيط ومؤسّسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان. وكان لافتاً أن المجلس الوطني قدّم قراءته للأحداث فيها ما هو توثيقي وما هو شهادات وما هو اقتراحات، منها وجود "أجيال في جيل"، أي أن الموارد البشرية التي تغذّي الغضب متعدّدة، وليست ذات طبيعة اجتماعية فقط، بل هناك من حاول السطو على الأسلحة، وهناك من فجّر مكبوتاً اجتماعياً اعتاد تفجيره بمناسبة الخصومات الرياضية (الألتراس)، وهناك من يقف وراء الرهانات المناهضة للمغرب، التي تريد أن تحشر الدولة في الزاوية وتقدّمها دولةً تخرق حقوق الإنسان، وذلك لأجل استعمالات أكبر من المطالب الاجتماعية، تتعلّق بصورة الأمن وصورة المغرب أمام استحقاق دولي يتعلّق بالحكم الذاتي وقابلية الدولة للتعدّدية وممارسة الحقوق... إلخ. وكان لافتاً أن هيئات دولية منها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي أدلت بدلوها. واللافت والجديد احتماء المحتجّين (كما السلطات) بالدستور، سواء من خلال إعلان الشباب أنهم يمارسون حقّاً دستورياً أو من خلال تفسير تدخّل السلطات بما ينصّ عليه الدستور بخصوص حقّها في الدفاع الشرعي عن المؤسّسات (بلاغ وزارة الداخلية والنيابة العامّة)، وكلاهما يحتمي بما تحقّق في "هيئة الإنصاف والمصالحة"، التي طوت ملفّ التجاوزات والاعتقالات المسمّاة بسنوات الجمر والرصاص. وما أفضت إليه توصياتها الخاصّة بالأمن والفضاء العام. والواضح أن الاحتجاج كانت له تفرّعات في الحوار العام، الذي غاب منذ سنين من الفضاء العمومي، الذي بدأ تأطيره داخل المؤسّسات، كما لم يحصل من قبل. وقد سبق للمعارضة المؤسّساتية أن حذّرت من الاختناق، أو ما سمّته بـ"السكتة المؤسّساتية"، بسبب "التغول" الحكومي، بلغة الحزب الأول في المعارضة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وهو يعني بذلك هيمنة مطلقة لثلاثة أحزاب على مركز القرار، عمودياً وأفقياً في البلاد، ما ضيّق هامش استغلال التعدّدية المغربية. لهذا الغضب الجيلي ما بعده، سواء على مستوى التدبير السياسي للمرحلة المقبلة أو على مستوى ما يتعلّق بالتوافقات الكبرى بخصوص الدولة الاجتماعية ومساراتها وعلاقة السلطة بالمال.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية