عربي
"أرض واحدة، عائلة واحدة، مستقبل واحد".. كان هذا شعار الهند خلال استضافتها قمة مجموعة العشرين عام 2023، وهو تلخيص دقيق لسياسة نيودلهي الإقليمية والدولية القائمة على مسك العصا من المنتصف، وتجنب استثارة طرف على حساب آخر. إذ تعتمد الهند استراتيجية متوازنة عبّر عنها وزير خارجيتها سوبراهمنيام جايشانكر في مؤتمر ميونخ للأمن في فبراير/شباط 2024، حين قال إن بلاده تنتهج "سياسة التوافق الكامل".
إن هذه السياسة المتوازنة، البعيدة عن إدخال الأيديولوجيا في العلاقات الدولية، والمبنية على المصالح المشتركة، تُعد ركيزة أساسية في مسيرة الهند نحو تحقيق طموحها بأن تكون من قادة العالم. فمنذ أن تبنت سياسة الانفتاح الاقتصادي عام 1991 وتخلت عن الاشتراكية "الفابية"، تسير الهند بخطى بطيئة لكنها ثابتة، كما وصفتها الكاتبة روبين ميريديث في كتابها الشهير "الفيل والتنين" الصادر عام 2007.
لم يكن انفتاح الهند بمستوى انفتاح جارتها الصين، إذ كانت تتقدم أحياناً وتحجم أحياناً أخرى، فيما ظل دور الدولة في تنظيم السوق أكبر بكثير من نظيرتها الصينية. ففي عام 1980، كان نصيب الفرد الهندي من الناتج المحلي الإجمالي يفوق نظيره الصيني، أما اليوم فقد أصبح نصيب الفرد الصيني أربعة أضعاف الهندي. وفي عام 2003 مثلاً، تجاوزت نسبة الصينيين الذين تخطوا خط الفقر 87%، مقابل 69% فقط في الهند. ويعود هذا الفارق إلى تأخر نيودلهي في تطبيق الانفتاح الاقتصادي وتطوير البنى التحتية، في حين كانت الشركات الغربية قد بدأت منذ منتصف الثمانينيات إقامة مصانع عملاقة في الصين، التي أصبحت تُعرف لاحقاً بـ"مصنع العالم".
تجاوزت الهند بريطانيا لتصبح خامس أكبر اقتصاد في العالم، وفي إبريل 2025 تفوقت قليلاً على اليابان لتحتل المركز الرابع عالمياً
بين عامي 1990 و2000، انخفض معدل الفقر في الهند بنسبة 10% في الريف والمدن على حد سواء، ومنذ التسعينيات وحتى عام 2024 تحقق الهند نمواً اقتصادياً ثابتاً يراوح بين 6% و7%. وهي نسب تفوقت على متوسط أدائها السابق الذي لم يتجاوز 4% في أفضل الأحوال. في المقابل، بدأت الصين تفقد زخمها الاقتصادي خلال السنوات الأخيرة، بعدما تراجعت مكانتها مركزاً رئيسياً لسلاسل التوريد العالمية، خصوصاً عقب اندلاع الحرب التجارية مع الولايات المتحدة في عهد دونالد ترامب، وما تبعها من قيود فرضتها إدارة جو بايدن على صادرات الرقائق الإلكترونية الصينية عام 2022. كما أثرت سياسة "صفر كوفيد" الصارمة خلال جائحة كورونا على السوق الصيني بشدة، ما فتح الباب أمام الهند لتعزيز انفتاحها على الغرب بقيادة واشنطن.
في عام 2021، تجاوزت الهند بريطانيا لتصبح خامس أكبر اقتصاد في العالم. وفي إبريل/نيسان 2025، تفوقت قليلاً على اليابان لتحتل المركز الرابع عالمياً بفضل استقرار سياساتها التنموية، ونمو قطاع الخدمات، وثقلها السكاني الكبير. ففي إبريل 2023، تجاوز عدد سكانها 1.427 مليار نسمة، لتصبح بذلك الدولة الأكثر سكاناً في العالم متقدمة على الصين.
قال الخبير الاقتصادي ريان ليمند: "الهند هي صين المستقبل"، لكن هذا المستقبل ليس قريباً جداً
وتتجه الشركات الغربية الكبرى اليوم إلى البحث عن بدائل للصين، ولا تجد خياراً أفضل من الهند ذات السوق الضخمة والأيدي العاملة الوفيرة. فشركة "آبل" مثلاً تعتزم تحويل 25% من إنتاج "الآيفون" إلى الهند. ومع ذلك، لا يزال أمام نيودلهي طريق طويل لتلحق بجارتها الشرقية، فكما قال الخبير الاقتصادي ريان ليمند: "الهند هي صين المستقبل"، لكن هذا المستقبل ليس قريباً جداً. فما زالت الهند تحتل مرتبة متواضعة في مؤشرات سهولة ممارسة الأعمال الصادرة عن البنك الدولي، ولا تزال بحاجة إلى تحسين بنيتها التحتية وشبكات النقل والمواصلات.
سياسياً، تتبع الهند نهجاً مرناً يقوم على إرضاء مختلف الأطراف إقليمياً ودولياً. فهي تشارك في مناورات عسكرية مع الولايات المتحدة واليابان لضمان أمن إمدادات الطاقة في المحيط الهندي، وفي الوقت نفسه تُعد من أبرز شركاء روسيا، إذ تستورد منها كميات كبيرة من السلاح والنفط. أما علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، فقد شهدت تطوراً لافتاً، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بينهما نحو 80 مليار دولار عام 2019، وبلغت الاستثمارات الأوروبية في الهند نحو عشرة مليارات يورو في العام المالي 2019–2020.
منذ وصول ناريندرا مودي، زعيم حزب "بهاراتيا جاناتا"، إلى رئاسة الوزراء عام 2014 منهياً هيمنة حزب المؤتمر التاريخية، تبنّت الهند سياسة انفتاح أوسع على جميع القوى المؤثرة. ففي عام 2017، زار مودي إسرائيل، وهو أول رئيس وزراء هندي يقوم بهذه الخطوة، وأقام معها شراكة استراتيجية جعلتها رابع أكبر مصدر للسلاح إلى الهند. كما عزز علاقاتها مع إيران عبر تطوير ميناء "تشابهار" الحيوي في حركة التجارة الدولية، ومع دول الخليج التي تُعد من أهم شركائها التجاريين. فالإمارات هي ثالث أكبر شريك تجاري للهند، والسعودية الشريك الرابع وثالث أكبر مورّد للنفط إليها، بينما وقّعت مع قطر في فبراير/شباط 2024 اتفاقية غاز ضخمة بقيمة 78 مليار دولار.
وفي مارس/آذار من العام نفسه، زار أجيت دوفال، مستشار الأمن القومي الهندي، إسرائيل ليؤكد دعم بلاده لحقها في الأمن مع التمسك بخيار حل الدولتين. أما في علاقاتها مع مصر، التي تمثل ثقلاً سكانياً واستراتيجياً كبيراً في الشرق الأوسط، فقد بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين أكثر من 7.2 مليارات دولار عام 2023، إلى جانب إجراء مناورات عسكرية مشتركة بين القوات المسلحة المصرية والهندية في العام نفسه. وفي المقابل، وصل حجم التبادل التجاري بين الهند وتركيا إلى عشرة مليارات دولار عام 2022، مع سعي البلدين لمضاعفته إلى 20 ملياراً في المستقبل القريب.
هذا النهج الوطني الهندي، القائم على الانفتاح الاقتصادي المحافظ والانفتاح السياسي المتوازن، بدأ يؤتي ثماره بوضوح. فقد نجحت مركبة الفضاء الهندية "تشاندريان-3" في أغسطس/آب 2023 بالهبوط على سطح القمر، في إنجاز تاريخي يُحسب للهند باعتبارها أول دولة تصل إلى القطب الجنوبي للقمر. كما أصبح سوق الأسهم الهندي الرابع عالمياً في 2024، واحتل جيشها المرتبة الرابعة من حيث القوة وفق تصنيف غلوبال فاير باور، والثانية من حيث عدد الأفراد، فيما ارتفع إنفاقها العسكري من 30 مليار دولار عام 2013 إلى 74 ملياراً عام 2024.