
عربي
أُقيمت على هامش معرض عمّان الدولي للكتاب، وضمن برنامج الفعّاليات الثقافية، ندوةٌ بعنوان "الرقيب الذاتي في الكتابة الإبداعية"، شارك فيها الأردنيان القاصّ جمعة شنب، والقاصّ والروائي زياد الزعبي، إضافةً إلى الروائي المصري محمّد سمير ندا. وفي حين نفى الزعبي أي سلطة أو وجوداً للرقيب الذاتي في مشروعه الإبداعي، وأكّد ضرورة تمتّع الكاتب بالحرية المطلقة ليتسنّى له إنتاج عمل إبداعي يعوّل عليه، أكّد الروائي محمد سمير ندا وجود الرقيب الذاتي، مسمّياً إياه "الضمير اليقظ"، الذي يحول بينه وبين كتابة قد تتضمّن مفاهيم سلبية مثل العنف والطائفية، معتبراً أن الضمير هو المحرّك الأساس للكتابة المسؤولة النابعة من القدرة على التمييز، وليس من الخوف من التبعات وسوء التأويل. وأكد القاصّ جمعة شنب ضرورة وجود الرقيب الذاتي، والذي لا ينفصل تماماً عن الرقباء الخارجيّين من سلطة سياسية وعقائدية ومجتمعية، مشيراً إلى سلطة جديدة أكثر ضراوةً، فرضتها وسائل التواصل الاجتماعي. وجاء في ورقته الجادّة والرصينة والعميقة والمتأملة: "أمّا الرقيب الداخلي عند المبدع فهو ذات مستقلّة، لوّامة، مُقرِّعة، منبثقة من ذات الكاتب، تراقب الجمال والحبكة والتصعيد الدرامي، والمعقولية إذا كانت الكتابة واقعية. وهو رقيب على اللغة ومدى ملاءمتها من حيث الصياغة والنحو. وهذا الرقيب سلاح ذو حدّين، فإمّا حاجب للجمال والإبداع، أو خالق لنصّ محلّق في سماء الحرية والانعتاق. إنه الأنا المنبثقة من الأنا... وهو ظلّ ظليل موازٍ لحوح، وهو ليس شرّاً مطلقاً، كما يدل عليه الاسم، لأنه المجاور والمحاور في الآن نفسه".
وقد انقسم جمهور الحاضرين، ممّن شاركوا في المناقشة، بين رافضين فكرة الرقيب بالمطلق، لأنها بحسبهم تكبّل وعي الكاتب، وتشلّ قدرته على الإبداع، وتقحمه في حسابات ما هو صحيح وما هو غير صحيح، وما هو مقبول أو غير مقبول لدى المتلقّين بحسب انتماءاتهم العقائدية، ومن يرون ضرورة قصوى للرقيب الذاتي، وأنه بمثابة الغربال الذي ينقّي الأفكار والمفردات من الشوائب، ويصقلها كما الألماس لتتجوهر إبداعاً حقيقياً.
يبدو الخلاف في وجهات النظر نابعاً من سوء فهم بعضهم فكرة الرقيب الذاتي الذي أراه، وأتفق مع جمعة شنب في أنه معيار إبداعي يدلّ على مدى نضج الكاتب وقدرته على مراجعة نفسه، وعلى مدى تخلّيه عن نرجسيته ووهم الأفضلية والتفرّد، التي تعزله عن المجموع، وتنمّي لديه عقداً نفسيةً متعلّقةً بهوس الظهور والشهرة التي يعاني منها كتاب كثيرون وصلوا إلى مرحلة اليقين والرضا عن الذات، متخلّين عن الارتياب الذي يبيح للمبدع المتوتّر القلق المضي في تحدّي ذاته والسعي الدائم إلى الاختلاف، كما من دون تعرّض الكاتب في غمرة اندفاعه وتسرّعه وانفعاله الآني إلى المساءلة القانونية والمحاسبة المجتمعية، إذا ما فعّل رقيبه الذاتي بما يخدم النصّ.
بطبيعة الحال، تمرّ الكتابة الإبداعية بمرحلتين، وربّما ثلاث وأربع وعشر في حالة المبالغة في الدقّة لدى مبدعين كبار يقيسون كلامهم بميزان الذهب. تنبثق الأولى من منطقة اللاوعي الغامضة، غير المدركة، المحمّلة بالرؤى والأفكار والصور والمشاعر... هنا تتدفّق الكتابة بشكل جارف من دون أي ضوابط تحدّ من عفويتها وتلقائيتها، وتأتي الثانية التي تستدعي استحضار الرقيب الذاتي العاقل المتأني الدقيق الحريص غير الشرير، بل الصديق الأمين، ليضع لمساته الأخيرة ليخرج النصّ، في نهاية الأمر، على أقلّ من مهله، ناضجاً مكتمل العناصر الإبداعية، مُحدثاً الأثرين الجمالي والمعرفي المطلوبَين.
