
عربي
لم تكن ليلة أمس السبت ليلة عادية في براغ؛ فمع إعلان النتائج النهائية للانتخابات البرلمانية، تبيّن أن حزب "آنو" ANO (اختصار لحركة المواطنين غير الراضين/الساخطين)، بقيادة الملياردير والسياسي القومي الشعبوي أندريه بابيش، قد أحرز فوزاً مدوياً بحصوله على 35% من الأصوات، ما منحه 80 مقعداً في البرلمان المكوَّن من 200 مقعد. ورغم أن هذا الفوز لا يمنحه الأغلبية المطلقة، فإنه يضعه على أعتاب تشكيل الحكومة من جديد، سواء عبر حكومة أقلية، أو بتحالفات مع أحزاب يمينية متطرفة، مما يثير القلق في بروكسل وكييف على حد سواء.
أندريه بابيش... ترامب التشيكي
يُعد أندريه بابيش أحد أبرز رموز التيار الشعبوي القومي في أوروبا الوسطى، وغالباً ما يُلقّب بـ"ترامب التشيكي" أو "برلسكوني أوروبا الوسطى (نسبة لرئيس حكومة إيطاليا الأسبق سلفيو بيرليسكوني)"، نظراً لثروته الهائلة ونفوذه في الإعلام، ولأسلوبه الإداري البراغماتي. وُلد عام 1954 في براتيسلافا لعائلة مرتبطة بالنظام الشيوعي، وبدأ مسيرته المهنية في مؤسسات الدولة، قبل أن يتحوّل بعد سقوط الشيوعية إلى رأسمالي كبير، مؤسساً في 1993 مجموعة "أغروفرت"، التي باتت من أكبر التكتلات الاقتصادية في البلاد.
مع تصاعد الغضب الشعبي من الطبقة السياسية، أسّس بابيش في 2011 حركة "آنو"، واعداً بإدارة الدولة بعقلية رجل الأعمال، ومحاربة الفساد والبيروقراطية. تولى رئاسة الحكومة بين 2017 و2021، ثم عاد إلى المشهد بقوة في انتخابات 2025، مستفيداً من تراجع خصومه، ومقدّماً نفسه من جديد بوصفه منقذاً اقتصادياً.
سياسياً، يتبنى بابيش نهجاً قوميّاً محافظاً، يعارض مركزية الاتحاد الأوروبي دون أن يدعو للخروج منه، ويرفض السياسات البيئية والهجرة التي تفرضها بروكسل، معتبراً إياها عبئاً على الاقتصاد التشيكي. أما في ما يخص أوكرانيا، فيدعو إلى دعم "مشروط وعقلاني"، ويرى أن أولوية الدولة يجب أن تبقى داخل حدودها، لا في ساحات الصراع الدولي.
سياسة خارجية "براغماتية" على حافة الخطر: قطع شريان كييف
رغم نفيه لأي ولاء للرئيس فلاديمير بوتين أو روسيا، يتبنى بابيش نهجاً خارجياً يتحدى التوجهات الأوروبية السائدة، إذ صرح خلال حملته بأنه سيوقف "مبادرة الذخيرة" التي تقودها التشيك لتسليح أوكرانيا، وشكّك في فعالية العقوبات على موسكو، معتبراً أن النفقات العسكرية يجب أن تُوجّه لتحسين أوضاع المواطنين داخلياً. وفي تصريح صريح لصحيفة فايننشال تايمز، قال: "إذا قال ترامب لي أقفز من النافذة، فلن أفعل"، في رفض واضح لمطالب الرئيس الأميركي السابق برفع إنفاق الناتو إلى 5% من الناتج المحلي. كما اعتبر أن تهديد روسيا "مبالغ فيه"، مؤكداً أن الناتو يملك تفوقاً كافياً، مشيراً إلى رغبته في اتباع سياسة "عقلانية" لا تستفز موسكو بلا داعٍ.
وكانت براغ تحت الحكومات الليبرالية السابقة، في طليعة الداعمين لكييف منذ تعرضها لغزو روسي في فبراير/شباط 2022، وأرسلت أسلحة، ونسقت شحنات ذخيرة، واستقبلت أكثر من 375 ألف لاجئ أوكراني. لكنها اليوم قد تتحول، بقيادة بابيش، إلى "حليف متردد"، يطالب بتقليص "الانخراط العاطفي والمالي"، ويضع أولوية لمشاكل الداخل على حساب الجغرافيا السياسية. هذا التحول لا يعني انقطاع الدعم تماماً، لكنه بالتأكيد يُضعف جبهة أوروبا الوسطى التي كانت تُحسب على معسكر الصقور في مواجهة موسكو.
بين براغ وبروكسل: تصادم قادم
ولا يخفي بابيش عداءه للعديد من سياسات الاتحاد الأوروبي، إذ يعارض "الصفقة الخضراء" المناخية، رغم أنه وافق عليها سابقاً عندما كان في السلطة عام 2019، معتبراً إياها عبئاً على الطبقات الوسطى، كما يرفض سياسات الهجرة الأوروبية، ويصفها بأنها تهديد للهوية الوطنية، إضافة إلى تشكيكه في الاندماج الأوروبي العميق، رغم أنه لا يدعو رسمياً للخروج من الاتحاد أو الناتو.
ولا يطمح بابيش في تمزيق المؤسسات الأوروبية، لكنه يُجيد اللعب من داخلها، وابتزازها سياسياً لتحقيق مكاسب محلية. وهو اليوم جزء من مجموعة "وطنيون من أجل أوروبا"، التي تضم أحزاباً يمينية متطرفة مثل "فيدس" المجري، و"التجمع الوطني" الفرنسي، و"حزب الحرية" النمساوي.
تحالفات صعبة أو ابتزاز سياسي
رغم فوزه، لم ينجح حزب "آنو" في الحصول على الأغلبية المطلقة، وتعهّد خصومه السابقون بعدم التحالف معه، ما يعني أن بابيش أمام سيناريوهين: تشكيل حكومة أقلية، ما يجعله عرضة للابتزاز السياسي داخل البرلمان، أو الدخول في ائتلاف مع قوى يمينية متطرفة مثل: الحزب الاشتراكي الديمقراطي القومي وحزب سائقي السيارات، المعروف بخطابه الشعبوي الرافض للاتحاد الأوروبي والتحول الأخضر. أياً كان الخيار، فإن الحكومة المقبلة ستكون مفصلية في مستقبل تشيكيا السياسي، وقد تشكل سابقة لغياب أي حزب تقليدي عن السلطة منذ الثورة المخملية في 1989.
بابيش والسلطة: براغماتية تتحدى القيود
رغم تعهّد الرئيس التشيكي الحالي، الجنرال السابق في الناتو بيتر بافيل، بعدم تعيين أي وزير يعارض عضوية البلاد في الاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو، تبقى سلطته الدستورية محدودة مقارنة بصلاحيات رئيس الوزراء، وهو ما يفتح الباب أمام أندريه بابيش لمناورات سياسية ذكية، لا تهدف إلى الصدام المباشر، بل إلى كسب الوقت والسلطة وتطويع المؤسسات لخدمة أجندته. ولا يسير بابيش على خُطى رئيس الوزراء المجري فكتور أوربان حرفياً، بل يُجسّد نسخة أكثر مرونة من اليمين الشعبوي، إذ لا يطرح الخروج من أوروبا، بل يسعى لتفكيك سياساتها من الداخل، مستغلاً أدوات الديمقراطية لفرض أجندة قومية واقتصادية محلية، ليس مدفوعاً بأيديولوجيا راسخة، بل بمزيج من المصلحة الشخصية والقدرة الفائقة على التقاط مزاج الشارع وتحويله إلى قوة سياسية ضاغطة.
ويعد صعود بابيش ليس مجرد عودة لرجل أعمال إلى الحكم، بل علامة على مرحلة أوروبية متقلّبة، في ظل تراجع الثقة بالأحزاب التقليدية، وتزايد المخاوف من الأزمات الاقتصادية والحروب، وتصاعد تيارات شعبوية تعيد تعريف مفهوم الدولة ودورها في النظام الدولي. في هذا السياق، يمثل بابيش حلقة متقدمة من تحوّل أوروبا نحو يمين قومي شعبوي، يضعف التماسك الأوروبي تجاه روسيا، ويُربك الاصطفافات الغربية. ومع اقتراب الانتخابات الأميركية، وتصاعد قوى مشابهة في سلوفاكيا وبولندا، تبدو أوروبا على عتبة إعادة رسم تحالفاتها وحدودها السياسية. وفي نظر الكثيرين، فإن بابيش لا يخرج بالتشيك من أوروبا، لكنه يغيّرها من الداخل، وهو أمر لا يقل خطورة عن إخراجها بحسب تقديرهم.

أخبار ذات صلة.

تحدّيات لا بد من مواجهتها
العربي الجديد
منذ 59 دقيقة

اللاتواصل في زمن التواصل
العربي الجديد
منذ ساعة