شبان الصين... أحلام تائهة بين الريف والمدينة
عربي
منذ أسبوعين
مشاركة
بعد انتهاج الصين سياسة الإصلاح والانفتاح في نهاية سبعينيات القرن الماضي، شهدت البلاد حركة نزوح جماعية باتجاه المدن الصناعية، بحثاً عن فرص عمل وتعليم أفضل، وعززت هذا التوجه سياسات ركزت على جذب الشباب من الريف باتجاه المدن للمساهمة في التوسع الحضري والنمو الاقتصادي، وإن تسبب ذلك باختلال سكاني وفجوة كبيرة بين مستوى التنمية في الريف والمناطق الحضرية. وكان المحرّك الأساسي للشباب هو الالتحاق بالجامعة، أو إيجاد وظيفة لائقة لتحسين الوضع المعيشي، والانضمام إلى الطبقة المتوسطة الحضرية. لكن مع كل تجربة كان هناك خط عودة وحنين للريف، لأن الغاية ليست الاستقرار الدائم الذي يعني الانسلاخ عن الأسرة ومسقط رأس الفرد، بل جمع المال واكتساب الخبرة المهنية لنقلها واستثمارها. ومع ذلك، تتفاوت دوافع عودة الشباب إلى الريف، إذ يميل جيل ما بعد الثمانينيات إلى العودة لأسباب عائلية، مثل إرسال أبنائهم إلى المدارس أو رعاية ذويهم المسنين. في المقابل، يميل جيل ما بعد التسعينيات إلى العودة لإطلاق أعمالهم الخاصة أو العمل بوظائف جهّزها الآباء مسبقاً، كي يكونوا بالقرب منهم. في حين أن جيل الألفية الثانية لا يزال ينظر إلى المدن الكبرى باعتبارها أكثر جاذبية. وتشير هذه التفاوتات إلى تحوّل في نظرة الأجيال تجاه القيمة الحقيقية للمدن الكبرى، مقارنة بالريف الذي تجاوزه قطار التنمية. يدير الأربعيني لي جاو، متجراً لبيع أدوات التجميل في مدينة شانتو (جنوب)، وسبق أن عمل بمدينة شنغهاي (شرق) في مجال التجارة الإلكترونية، واكتسب خبرة كبيرة خلال السنوات العشر التي قضاها هناك، فضلاً عن تعلمه اللغة الإنكليزية. ويقول لـ"العربي الجديد": "بعد سنوات طويلة، قررت العودة إلى مسقط رأسي لأكون قريباً من والدَيّ. تمكنت من جمع رأس مال خلال عملي في شنغهاي، وأصبحت لديّ دراية واسعة بكيفية إدارة الأعمال، لذلك كانت العودة الخيار الأمثل للبدء بمشروعي الخاص، وأسست شركة صغيرة، وخلال العام الأول حققت أرباحاً، فوسّعت أنشطتي التجارية، وتزوجت، وأعيش اليوم مع عائلتي بسلام وهدوء". من جانبه، يرفض جانغ وي، الموظف في شركة أدوية بالعاصمة بكين، فكرة العودة إلى مسقط رأسه بمقاطعة يونان (جنوب غرب)، ويقول لـ"العربي الجديد": "رغم كلفة المعيشة في العاصمة، غير أن راتبي جيد، ويكفي لتغطية المصاريف ومساعدة أبي وأخي الأصغر الذي يدرس في إحدى الجامعات. أزور العائلة مرة أو مرتين في العام، لكن في كل مرة أعود فيها إلى القرية أشعر باكتئاب شديد، فالحياة هناك بسيطة وهادئة، ولا تصلح لشاب مثلي مفعم بالنشاط ولديه طموحات وتطلعات كبيرة. من الصعب التأقلم مع الأجواء هناك، فكل شيء على حاله، وتشعر أن الزمن لا يتقدم، وكأنه كُتب على الريف أن يبقى متأخراً". ويوضح أستاذ الدراسات الاجتماعية في جامعة شينزن، لي شانغ، لـ"العربي الجديد"، أن "التحضر تطور كعملية تدريجية بدأت واستمرت بتدفق سكان الريف والمدن الصغيرة على مستوى المحافظات والمقاطعات باتجاه المدن الصناعية الكبرى التي تُعد قاطرة التحضر، مثل شنغهاي وبكين وشينزن. هذه المدن تمثل عنصر جذب للشباب الراغبين في صقل مهاراتهم وتنمية قدراتهم المهنية والمعرفية. لكن في بعض الأحيان، يصبح الانبهار بالأجواء الحضرية حالة نفسية تدفعهم نحو الانسلاخ عن هويتهم وطباعهم وبيئتهم. بينما تُعد المدن الصغيرة ركائز استقرار لمَن أنجزوا أعمالهم ووضعوا لحياتهم أهدافاً محددة، كما تمثل بديلاً للراغبين في الهروب من عبء العمل وصخب المدن الكبرى". ويلفت لي شانغ إلى أن "الكثير من الصينيين ينخرطون بعد عودتهم إلى ديارهم في شبكاتهم العائلية بعد سنوات من الضياع والغربة، ما يعزز الروابط الأسرية. وبفضل الموارد الاقتصادية والدعم الاجتماعي الحكومي لآبائهم، يتمتعون بمرونة أكبر في تخطيط حياتهم بعد العودة من المدينة، مع الحفاظ على نمط حياة مستقر. هناك عوامل أخرى تدفع بهذا الاتجاه، مثل الرغبة في الزواج والإنجاب، لأن الضغوط الاقتصادية والاجتماعية المصاحبة للعيش في المدن الصناعية تحُول دون ذلك". وصدرت في مطلع عام 2025، نشرة حكومية تشجع فكرة عودة الشباب إلى الريف، باعتبارها تساهم في دفع عجلة التحول الاجتماعي، لأن الشباب ينقلون ما اكتسبوه من معرفة ومعلومات وأفكار وأنماط حياة، معززين بذلك انفتاحاً أكبر في مدنهم وقراهم. وأكدت النشرة "ضرورة تهيئة بيئة عامة داعمة للشباب، وألا تكون المدن الكبرى الرمز الوحيد للنجاح في المنظومة القيمية. وبذلك يمكن لمزيد من الراغبين بالعودة إلى الريف أن يشعروا بالانتماء، وأن ينطلقوا لبناء حياة جميلة".

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية