لماذا يقتل الروائي شخصياته؟
عربي
منذ 3 ساعات
مشاركة

في رواية "مدام بوفاري" لفلوبير، يضع الروائي بطلته، صفحة بعد أخرى، ومنذ البداية، في مأزق حياتي شديد الضيق، ثم يفتح لها نافذة بعد أخرى، لا ليجعلها تنجو بالحبّ الحقيقي الذي كانت تبحث عنه، أو بدأت تبحث عنه منذ أن تعرّفت إلى عالمٍ مختلف عن ذلك العالم الضيق الذي وجدت نفسها فيه وهي صغيرة، بل ليقرر أن مثل هذا الخيار عاقبته الموت.

وهذا أمر غريب للغاية، إذ إن المحكمة الفرنسية ادعت على الروائي غوستاف فلوبير بتهمة الإساءة إلى الأخلاق العامة وإلى الدين، بحسب المرافعة التي قدّمها المحامي العام الفرنسي أثناء محاكمة الكاتب. بينما كان الروائي، لو قُرئت الرواية جيداً، لا يتحدث عن الأخلاق أو الدين، بل عن الخيارات البشرية التي تفضي بكثير من الأفراد إلى الموت.

وقد دافع محامٍ بارع عن الرواية والروائي ضد التهمة الموجَّهة إليهما، وتفهّم أحد القضاة الشجعان دوافع الكاتب في الكتابة، كما استوعب موقف المرأة العاشقة، وحكم ببراءة الروائي من اتهامات الادعاء. وهذا مهم في سياق الدفاع عن حرية التعبير، لكنه لا يحمل معنىً يُذكر، أو لا يظل مهماً البتة، في حقل الخيارات الوجودية.

والراجح عندي أنّ الشخصية كانت أكثر شجاعة من الكاتب، بينما خدعها العالم الخارجي، أو المرجع الواقعي، وأحال الروائي إلى المحاكمة، ولهذا لم يجد بُدّاً من جعلها تنتحر، بعد أن أُغلقت أمامها سبل الحياة بشراسة أولئك الذين خدعوها وكذبوا عليها، ممن كانت تعتقد أنهم يحبونها.

موت مدام بوفاري أو آنا كارينينا ليس حالة متكررة، بل يمثّل فرادة

وليس لدينا أي دليل على احتمال أن يكون أحد ما قد فكّر في إحالة تولستوي إلى المحكمة بسبب "آنا كارينينا"، في الرواية التي حملت اسمها. وهي شخصية متمرّدة أخرى، وعاشقة خارج الأعراف. وسوف تجد في طريقها أنذالاً آخرين يضعونها في المأزق الوجودي الذي لا تجد، أو لا يجد الروائي، وسيلة للخلاص منه إلا بدفعها إلى الانتحار، فاختار عجلات القطار الرهيبة لترمي نفسها تحتها.

وربما كان هذا الاختيار هو الذي أخرج كلتا الشخصيتين من النمطية، فالحب والعشق موجودان بين النساء والرجال منذ بداية البشرية، لكن موت مدام بوفاري أو آنا كارينينا ليس حالة متكررة، بل يمثّل فرادة. وفي هاتين الحالتين، المأزقُ هو المشكلة، لا الحب أو العشق، بغض النظر عن التفاصيل الأخرى، فالحب هو الحب، داخل العلاقة الزوجية أو خارجها.

وهكذا، فإن الحب والموت هما ما أخرج الشخصيتين من النمطية الروائية، أي من كون كلٍّ منهما مجرد امرأة تحب أو تعشق فقط. ويبقى السؤال الأدبي حاضراً: ما الذي ضمن لكلٍّ منهما أن تصبح من أكثر الشخصيات الأدبية شهرة في الثقافات الإنسانية؟ أهو الحب؟ وهو تجربة إنسانية شاملة جربها البشر منذ بداية الخليقة، وستظل مستمرة ما بقيت الحياة، أم هو الموت الفاجع؟

المؤسف أن يكون الموت هو "الضمانة". واللافت أن يرضى الواقع، أو المجتمع، وهو المسؤول الأول عن مصير المرأتين في مأساة حبهما، بهذا المصير، وأن يدفع الأحداث نحوه، وأن يكون الروائي هو أداته.


* روائي من سورية

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية