في مخيّمات الحالمين
عربي
منذ 5 ساعات
مشاركة

بديع ومبهج مشهد الحراك الطلابي المتضامن مع فلسطين في فيلم "المخيّمات" (The Encampments)، الذي عرض أخيراً ليواجه سرديات الإعلام الغربي ضدّه. لا يملك هؤلاء الشبّان القدرة على التحدّي والتخطيط والمواجهة فحسب، بل أيضاً القدرة على الحلم، وتلك أكبر من سابقاتها بكثير. لعلّ الفيلم الشهادة الأكثر صدقاً في الصراع بين سردية الإعلام الأميركي، الذي عمل على شيطنة الطلاب، وقدرة هؤلاء الطلاب على امتلاك اللغة في التعبير عن طبيعة نشاطهم دفاعاً عن العدالة من أجل فلسطين، أو حلماً بتحقيقها. بذلك، يقدّم الطلاب أنفسهم (وهم على حقّ) الخلفَ للحراك الطلابي ضدّ الحرب على فيتنام، عندما احتلّ طلاب الجامعة المعترضون على الحرب مبنى هاملتون هول عام 1968. الحراك ضدّ الحرب في فيتنام بات اليوم معلماً في ذاكرة الجامعة، التي اعترفت أن قمع الطلاب آنذاك لم يكن محقّاً. ولعلّ "كولومبيا" تكرّم يوماً طلاب الحراك من أجل فلسطين.

يقدّم فيلم "المخيّمات" صورة بديعة لطلاب يواجهون نظاماً شرساً بلحمهم الحي

يقدّم الفيلم صورة شاملة للحراك الطلابي وقادته، انطلاقاً من جامعة كولومبيا بنيويورك، في ربيع 2024، قبل أن يمتدّ إلى أكثر من 60 من جامعات النخبة الأميركية، على خلفية حرب الإبادة في غزّة. ركّز هذا الحراك بداية في الضغط علـى الجامعات لسحب استثماراتها في تصنيع الأسلحة التي تُصدَّر إلى إسرائيل، وتُستخدَم في قتل الفلسطينيين. إلا أنه، وعلى غرار ما جرى عام 1968، تحوّل لمواجهة مع الشرطة بعدما لجأت الجامعة إلى استدعاء قوى الأمن، بعد فشل المفاوضات للتوصّل إلى اتفاق. نجح الفيلم الذي انضمّ منتجوه إلى مخيّم الطلاب لتصوير يومياتهم، في قلب الصورة التي قدّمتها وسائل الإعلام الأميركية، مدّعية أنهم معادون للسامية، متطرّفون، خطرون، متعصّبون يساريون، إرهابيون، وغيرها من أدوات الشيطنة. يقول معلّق إن حرم الجامعات أصبح "غزّة صغيرة"، في حين يقول آخر إن الجامعات الأميركية تحوّلت مرتعاً للفكر الراديكالي الخطير.
شمل الفيلم أيضاً مشاهدَ من عنف الشرطة والمتظاهرين مؤيّدي إسرائيل ضدّ الطلاب، مثل مشاهد إطلاق رجال الشرطة الرصاص المطاطي والغاز المسيّل للدموع، وضرب المتظاهرين أو جرّهم عبر الشارع، والهجوم العنيف من التظاهرة المضادّة، خصوصاً في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجليس، حيث أُلقيت الألعاب النارية المشتعلة على الطلاب، وردّد بعضهم هتافات تدعو إلى اغتصاب المتظاهرات. لم يحظَ هذا العنف بمساحة تذكر في التغطية الإعلامية التي عمدت إلى إظهار الطرفَين متساويين في العنف وفي القضية. الأجمل (والأكثر أهمية) في ذلك كلّه الطلاب أنفسهم؛ لا قوة تحمي هؤلاء الطلاب الذين قرّروا أن يعرّضوا مستقبلهم الجامعي وبقاءهم في الولايات المتحدة، وحتى أمنهم الشخصي، للخطر دفاعاً عن قضية يؤمنون بها. ثمّة قدر كبير من الفرح في يوميات الطلاب، إلى جانب القدرة على التنظيم واستباق ردّات الفعل من الإدارة أو من الشرطة. نراهم ينظّمون حلقات التوعية بالتاريخ وبالمفاهيم التي قاربوها في دراساتهم الجامعية، إلى جانب الغناء والقراءة، وغيرها من يوميات الحياة في المخيّم. في المقابل، ينقل الفيلم مشاهدَ الدمار الهائل في غزّة، بما في ذلك قتل المدنيين وتفجير مباني الجامعات، إلى الشريط المؤثّر للمكالمة الهاتفية الأخيرة للطفلة هند رجب، التي قُتلت وعائلتها في استهداف للسيارة التي كانت تقلّهم بأكثر من 300 طلقة نارية. وقد رفع المتظاهرون اسم هند على مبنى هاملتون هول، باعتبارها رمزاً لوحشية آلة الحرب الإسرائيلية، وللثمن الباهظ من الضحايا المدنيين.
يسيطر على سردية الفيلم أربعة طلاب لعبوا دوراً أساساً في الحراك التضامني الطلابي، بما في ذلك الطالب الفلسطيني محمود خليل، وهو لا يزال قيد الاعتقال يواجه مسار ترحيل محتمل، وطالب يهودي يتحدّث عن تجربته مع المعتقدات الصهيونية التي لُقِّنها من محيطه. الغالبية العظمى من "أبطال" الفيلم الوثائقي يتحدّثون الإنكليزية من دون لكنة شرقية، باستثناء خليل الذي تربّى في أحد مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين في سورية، وهم إلى حدّ كبير نتاج الثقافة الأميركية وتحوّلاتها أخيراً. يشدّد الفيلم على العداء الكبير الذي يحمله الإعلام التقليدي، والطبقة السياسية لهؤلاء الطلاب، باعتبارهم سوف يشكّلون النُّخبة الجديدة، وهم (إن بقوا علـى حالهم) سيقدّمون بالضرورة نموذجاً جديداً لنخب مختلفة. في المقابل، يقدّم الفيلم معلومات إضافية عن التهويل في تصوير الحراك الطلابي من داخل الجامعة، عبر عامل في مجال الاتصالات، تحدّث من دون كشف هُويَّته، عن ضغوط حول صياغة البيانات الإعلامية عن الحراك، إذ حُظر استخدام كلمتي "فلسطين" و"فلسطيني" في البيانات، كما غيّبت المعلومات عن ضحايا الإبادة في غزّة.

ليس "المخيّمات" عن محمود خليل ورفاقه فحسب، بل عن قدرة هؤلاء الشبّان الكبيرة على الحلم والأمل

يقدّم فيلم "المخيّمات"، للصحافي كي بريتسكر والمخرج مايكل ت. ووركمان، صورة بديعة لطلابٍ يواجهون نظاماً شرساً بلحمهم الحي، في حين يحتفظون بقدرة كبيرة على إنتاج خطابٍ بديل. ليس هنالك معلومات كثيرة اليوم عن الحراك الطلابي تضامناً مع فلسطين وغزّة، لكن كثيرين من هؤلاء الناشطين ما زالوا يواجهون خطر الملاحقة القضائية والترحيل. وقائد هذا الحراك (محمود خليل) قيد الاحتجاز في لويزيانا ينتظر البتّ في قرار ترحيله. وكان قد كتب في مرافعة قضائية عن ألمه لغيابه عن حدث مولد طفله: "بدلاً من أن أمسك بيد زوجتي في غرفة الولادة، كنتُ منحنياً على أرضية مركز الاحتجاز، أهمس عبر خط هاتف متقطّع وهي تلد وحيدة. كنتُ أنصتُ إلى ألمها محاولاً مواساتها، بينما كان 70 رجلاً آخرين ينامون حولي. عندما سمعتُ صرخات ابني الأولى، دفنتُ وجهي بين ذراعي كي لا يراني أحد أبكي".
ليس "المخيّمات" عن محمود خليل ورفاقه فحسب، بل عن قدرة هؤلاء الشبّان الكبيرة على الحلم والأمل، ونحن بأمسّ الحاجة لهما اليوم، ولو في فيلم وثائقي.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية