
احتلّ مصطلح "الشرق الأوسط الجديد" على مدار العقود الماضية مكانةً بارزةً في الخطاب السياسي الإسرائيلي، وبرز عنواناً لرؤيتَين متباينتَين حول مستقبل المنطقة. ينسب التصوّر الأقدم حول "الشرق الأوسط الجديد" إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريس، الذي صكّ المصطلح في كتابه الصادر عام 1993، وحمل الاسم نفسه. كانت رؤية بيريس، التي ظهرت في أعقاب اتفاق أوسلو، تنطلق من إمكانية اندماج إسرائيل في المنطقة عبر قيام سلام إقليمي وتعاون اقتصادي تكون لإسرائيل فيه الهيمنة الاقتصادية والفكرية والثقافية، وكانت تسعى إلى تجنّب اندلاع انتفاضاتٍ جديدةٍ، ومن ثمّ فإن تصور الدولة الإسرائيلية حينها لحلّ القضية الفلسطينية، في ظلّ حكومة حزب العمل، أن تكون هناك سلطة حكم ذاتي محدودة الصلاحيات والإمكانات، تنسّق مع الإسرائيليين في ما يخصّ التهديدات الأمنية التي يمكن أن تتعرّض لها إسرائيل، مع التلويح بورقة الرفاه الاقتصادي للفلسطينيين المبني على تجاوز الاختلافات الدينية والأيديولوجية، التي قصد منها أن تؤدّي، بشكل تدريجي في ما بعد، إلى تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية.
ويجدر هنا أن نوضح أن جوهر ما طرحه بيريس لم يكن جديداً، فقد سبقه إلى ذلك التصوّر تيودور هرتزل الذي عبّر عنه بوضوح في رواية "Altneuland" (الأرض القديمة الجديدة)، التي كتبها بالألمانية عام 1902، وروّج فيها اعتقاده أن حلّ مشكلة موقف العرب العدائي تجاه الصهيونية يكمن في الرفاهية المادّية التي سيجلبها المستوطنون اليهود إلى المنطقة؛ وهذا الاعتقاد جسّده حوار بين بطلَين من أبطال الرواية، إذ يتساءل كينسجورت: "ألم تتضرّر مكانة السكّان الفلسطينيين بسبب هجرات اليهود؟"، فيجيب رشيد بك (البطل العربي في الرواية): "أبداً، كان ذلك نعمة لنا جميعاً، وخصوصاً أصحاب الأملاك الذين باعوا أراضيهم بأسعار مرتفعة لليهود، أو الذين احتفظوا بأراضيهم من أجل ارتفاع أكبر لأسعارها.. أمّا من لم يمتلكوا شيئاً، ولم يكن لديهم ما يخسرونه، فقد ربحوا أيضاً؛ فرص عمل، وسبل عيش، وظروفا معيشية جيّدة.. لقد أغنانا اليهود، فلماذا نكرههم؟! هم يعيشون بيننا إخوةً، فلماذا لا نحبّهم؟!". وهكذا لم تنفصل رؤية بيريس عن رواية مؤسّس الصهيونية السياسية، فكلاهما نظر إلى العرب بوصفهم أدنى مكانةً، وراغبين في بيع الأرض، أو منتظرين من هو أرقى (وأجدر) منهم في فتح مجالات العمل لهم.
تصوّر نتنياهو وأستاذه جابوتنسكي، ينطلق من عجز العالم العربي، وإمكانية قهره وإخضاعه للقوة الصهيونية، من دون مقاومة
ويمكن القول إن مفهوم الشرق الأوسط الجديد عند بنيامين نتنياهو مرّ بثلاثة تطوّرات مهمّة؛ بدأ أولها انطلاقاً من أفكار مؤسّس الصهيونية التقدّمية، زئيف فلاديمير جابوتنكسي، الصديق المقرّب من والد نتنياهو، والمفكّر الذي يعتبره نتنياهو ملهمه ومرشده الروحي، وهو نفسه الذي قام على أفكاره حزب ليكود، الذي يُعدُّ نتنياهو أطول من تولّى رئاسته. كان جابوتنسكي يؤمن أن القوة وحدها، وليس غيرها، السبيل لإقامة دولة يهودية يقرّ بها العرب. ولطالما أكّد هذا المعنى في مقالات كثيرة؛ أبرزها ما تضمّنه مقالاه "الجدار الحديدي" و"نحن والعرب"، وكلاهما نشرا عام 1923؛ فقد كتب في "الجدار الحديدي" أن "الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يوافق بموجبها العرب على دولة يهودية في فلسطين هي القوة، والعدالة التي تطبّق بالقوة تبقى عادلة، هذه السياسة الوحيدة الممكنة تجاه العرب".
أمّا التطوّر الثاني فشهدته ولاية ترامب الأولى، فمرّت هذه الأفكار التي رسخت في عقل نتنياهو، واستندت إلى القوة في تحقيق "الحلم الصهيوني" بتغير ملموس في ما يتعلّق بعلاقة إسرائيل مع الدول العربية، وليس مع الفلسطينيين. فمع توصّل الإدارة الأميركية إلى اتفاق أبراهام، بين إسرائيل وعدة دول عربية، تحوّل نتنياهو، شكلاً لا قناعةً، إلى ترويج الرفاهية التي يمكن أن يجلبها السلام للعالم العربي، وكيف يمكن لإسرائيل أن تسهم في التنمية في هذه البلدان، وأن تأخذ بيد الشعوب العربية نحو التقدّم، وهي شعاراتٌ كانت أقرب إلى التصور القديم الذي قدمه هرتزل في روايته، وأكثر قرباً لأفكار شمعون بيريس حول الشرق الأوسط الجديد. وبالنسبة إلى القضية الفلسطينية، فقد تضرّرت أكثر من هذا الاتفاق، ولم تستفد منه شيئاً، ولم تعد مركزية في المعادلة الإقليمية، وصارت خارج نطاق اهتمام إسرائيل والمنطقة، مع سعي إسرائيلي إلى تقويض إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة عبر التوسّع الاستيطاني، ولم يؤثر عن نتنياهو في أيّ وقت اعتبار الفلسطينيين شريكاً ضرورياً للسلام، وظلّت إسرائيل بقيادة نتنياهو تتعامل معهم من منطلق القوة القديم لجابوتنسكي.
غير أن معركة طوفان الأقصى وتطوراتها، ومواجهة حزب الله والحوثيين، ثمّ الحرب الحالية التي بادرت إليها إسرائيل ضدّ إيران، أعادت خطاب نتنياهو إلى نسخته القديمة، ودفعته إلى الغرق في أفكار جابوتنسكي، وصار أكثر وضوحاً في الحديث عن هندسة الشرق الأوسط وفرض هيمنة مبنية على القوة وحدها، من دون منافسة من أيّ دولة. وعلى هذا الأساس، يظهر جلياً أن ما نحن بصدده، حسب تصريحات نتنياهو طوال الشهور الماضية، الذي تصاعد مع الضربات المفاجئة ضدّ إيران، هو شرق أوسط جديد ضمن إطار أمني واستراتيجي يلبّي مصالح إسرائيل، وتكون لها فيه الهيمنة العسكرية، وتفرض إرادتها على دول المنطقة عبر تفوّقها العسكري وسياسة الترهيب، وتجاوزٍ للقضية الفلسطينية، وتركيز في فرض رؤية مفادها أن إسرائيل والنظام العربي يواجهان تحدّيات واحدة، تتمثّل في التهديد الإيراني، وما تسمّيه إسرائيل "الإسلام الراديكالي".
وهنا نجد أنفسنا أمام ثلاث ملاحظات رئيسة، ترتبط أولاها بكيفية تلقّي التصوّرين. فعلى الرغم ممّا حظي به الطرح الذي قدّمه بيريز من دعم غربي وعربي واسع، فقد افتقر إلى القدرة على الصمود أمام الواقعين السياسي والأمني، واندلاع الانتفاضة الثانية، ونهاية حكم اليسار الإسرائيلي مقابل صعود اليمين بقيادة نتنياهو. أمّا تصوّر نتنياهو، ورغم انتقاداتٍ له بسبب تجاهل الحقّ الفلسطيني، واعتماده لغة القوة والغطرسة، فقد لاقى قبولاً براغماتياً من بعض الدول العربية، فعقدت اتفاقيات في المجالات كافّة مع إسرائيل.
سيحمل الشرق الأوسط الذي يتشكّل من هزيمة إيران، أو استسلامها، رؤية نتنياهو أكثر ممّا يحمل من حلم بيريس
وتتعلّق الملاحظة الثانية بما تحمله الرؤيتَان من ازدراء للعالم العربي، إذ ينطلق التصوّر الأقدم الذي قدّمه هرتزل، ثمّ تلميذه شمعون بيريس لاحقاً، من النظر إلى العرب غوغاء، ويسعون إلى المال ولو ببيع أوطانهم، وهو معنى ضمني لاحظه جابوتنسكي في مقاله "نحن والعرب"، فكتب "إن التوهم بأن يوافق العرب طواعيةً على تحقيق حلم الصهيونية مقابل الرفاهية الثقافية أو المادية التي يمكن أن يوفّرها لهم المستوطنون اليهود، هو هذيان طفولي نابع من المتعاطفين مع العرب، لكنّه في الوقت نفسه ينطوي ازدراءً وتحاملاً على العرب، ويصوّرهم بأنهم غوغاء يسعون إلى الذهب، وعلى استعداد للتخلّي عن وطنهم مقابل شبكة سكك حديد جيّدة". أمّا تصوّر نتنياهو وأستاذه، فينطلق من تصوّر عجز العالم العربي، وإمكانية قهره وإخضاعه للقوة الصهيونية، من دون مقاومة، وفرض قناعات الكيان الصهيوني وأيديولوجياته على جميع دول المنطقة، نتيجة ما يملكه من تفوق عسكري.
ثمّة وجه ازدراء آخر يتمثّل في اقتصار دور العالم العربي على قبول ما يعرض/ يفرض عليه من دون أن يكون له دور في تشكيل مستقبل المنطقة، وأن يترك للإسرائيليين، الذين يمثّلون نقطة وسط محيط عربي كبير، صياغة مستقبل المنطقة. العجيب هنا أن الازدراء الذي تضمّنته كلتا الرؤيتَين لم يمنع النظام العربي من التطبيع مع إسرائيل، والأكثر من ذلك أن أغلب الأنظمة العربية سمحت لإسرائيل باختراق أمنها القومي عبر التعاون الاستخباراتي، وتولّي شركات إسرائيلية أعمال بنى تحتية أمنية في بعضها، وعبر إجراء مناورات عسكرية معها، بل واعتماد بعضها على الكيان الصهيوني في الكهرباء والغاز والمياه بنسب تتعارض مع الأمن القومي لهذه البدان، فضلاً عن التعاون الاقتصادي والتجاري والسياحي رغم الجرائم والمجازر التي يرتكبها الاحتلال في غزّة والضفة ولبنان وسورية واليمن... وغيرها، ولم تتوقّف يوماً.
أمّا الملاحظة الأخيرة، فخلاصتها أن فشل الحرب الحالية على إيران سوف يكون مقدّمةً لنهاية كلتا الرؤيتَين. لكنّ الشرق الأوسط الذي قد يتشكّل في حال هزيمة إيران، أو استسلامها، أو قبولها اتفاق إذعان شبيه بما وقّعه حزب الله، سوف يحمل من رؤية نتنياهو أكثر ممّا يحمل من حلم بيريس. وهي نتيجة مؤسفة تعكس ضعف النظام العربي، وتلزم الشعوب بتغيير هذا الواقع.
