نقص الفصائل الدموية النادرة يُهدد حياة المرضى في مستشفيات مصر
عربي
منذ 3 ساعات
مشاركة

بين أروقة مستشفى "جمال عبد الناصر" في الإسكندرية (شمالي مصر)، جلست سيدة خمسينية ترتدي جلباباً بسيطاً، تخبئ دموعها بطرف غطاء رأسها، بينما تنظر إلى ابنها الممدد على سرير حديدي بارد. كان من المفترض أن يخضع الشاب الثلاثيني لعملية جراحية عاجلة، لكن شيئاً واحداً حال دون ذلك، لم يتوفر كيس دم من الفصيلة (O–)، وهي واحدة من أندر فصائل الدم.

ورغم إطلاق الأسرة والأصدقاء أكثر من نداء عبر مواقع التواصل الاجتماعي لتوفير الفصيلة النادرة التي طالبت إدارة المستشفى بتجهيز ثلاثة أكياس منها على الأقل قبل البدء في إجراءات العملية الجراحية، استطاعت الأم بصعوبة توفير كيسين تبرع بهما أفراد من العائلة بعدما اشترط الأطباء أن تتطابقا مع فصيلة دم ابنها الذي تم إدراجه على قوائم الانتظار مؤقتاً لحين توافر الكمية المطلوبة.

ليست هذه السيدة حالة استثنائية، فالأزمة تتكرر يومياً في مستشفيات مصر العامة والخاصة، وسط نقص حاد في أكياس الدم، لا سيما الفصائل النادرة، ما يشكل خطراً صامتاً يهدد حياة الآلاف من المرضى، من دون أن يثير ذلك ما يكفي من الجلبة أو الاستنفار الرسمي.

خطر صامت يهدد حياة الآلاف من المرضى، من دون أن يثير ذلك ما يكفي من الجلبة أو الاستنفار الرسمي

في مستشفى "الميري الجامعي"، يقول أحد الأطباء، الذي فضّل عدم ذكر اسمه، إن هناك بالفعل أزمة في نقص أكياس الدم النادرة التي لا يمكن الحصول عليها إلا عن طريق التبرع من المواطنين، أو عبر الشراء، وغالباً ما تحتاج إلى بعض الفحوصات في المعامل، وهذا بالطبع يكلف الكثير، وفي حالات أخرى يتم شراؤها بأسعار مغالى فيها. ويؤكد المتحدث أن المستشفى يواجه أسبوعياً ما لا يقل عن عشر حالات تأجيل لعمليات حرجة بسبب عدم توفر أكياس دم عادية أو من الفصائل النادرة، لذلك نطلب من ذوي المرضى أن يبحثوا بأنفسهم عن متبرعين، أو نوجههم إلى أقرب بنك دم، لكن غالباً يعودون بخيبة أمل.

ويضيف الطبيب أن ما يزيد المشكلة هو وجود العديد من الفئات التي تعيش على أكياس الدم، كمرضى أنيميا البحر المتوسط والأنيميا المنجلية ومرضى سيولة الدم والفشل الكلوي، فهؤلاء يحتاجون للدم بشكل يومي وإلا يفقدون حياتهم.

أم محمود، وهي سيدة من منطقة اللبان، لجأت إلى مواقع التواصل الاجتماعي بعدما فشلت كل محاولاتها الرسمية لتوفير كيس من فصيلة B– لابنتها المصابة بسرطان الدم. تقول لـ"العربي الجديد": "نشرت استغاثة على فيسبوك، وجدت شابا وافق على التبرع، لكنه طلب مبلغاً كبيراً. وافقت لأن حياة بنتي أهم من أي شيء". وأضافت أم محمود أنه "على الرغم من توفر عدد من المتبرعين بالدم لصالحي في المستشفى، إلا أن ذلك لم يشفع لي، حيث إن المشكلة تكمن في توفير الفصيلة النادرة ذاتها"، بعدما أخبرها الأطباء بأن الأزمة نوعية وليست كمية.

 بينما يشير الدكتور خالد حلمي، أخصائي أمراض الدم، إلى أن الفصائل النادرة مثل AB– وB– وO– لا تمثل سوى 1 إلى 3% من إجمالي عدد المتبرعين في مصر، وهو ما يجعل تلبية الطلب عليها أمرا بالغ الصعوبة، خصوصا في حالات الطوارئ. يوضح حلمي في تصريحات لـ"العربي الجديد"، أنه "كلما زاد الاعتماد على الولادات القيصرية، وارتفعت معدلات حوادث الطرق، وتزايد عدد مرضى الأنيميا والثلاسيميا وأمراض الدم المزمنة، زاد الطلب على أكياس الدم"، مضيفا أن بنوك الدم باتت غير قادرة على مجاراة هذا الطلب المتصاعد، لا سيما في المحافظات البعيدة أو المناطق الريفية.

ويفيد طبيب أمراض الدم بأن تفاوت الأسعار بين المستشفيات يزيد تعقيد المشهد، ففي بعض المستشفيات الخاصة يصل سعر الكيس الواحد إلى نحو 2000 جنيه، مقابل 325 جنيها فقط في مستشفيات وزارة الصحة (الدولار يساوي 50 جنيها تقريبا)، ومع غياب الرقابة الصارمة يجد المرضى أنفسهم ضحية لعدم المساواة في فرص العلاج.

وخلف ستار الأزمة تنمو سوق غير رسمية لبيع الدم، يديرها سماسرة ينشطون في محيط المستشفيات الكبرى. يتقاضى بعضهم عمولة مقابل إيصال المتبرع إلى ذوي المريض، أو يبيعون أكياسا مخزنة بطرق غير قانونية. رنا عبد العليم، وهي طالبة جامعية، تحكي عن تجربة مريرة مع أحد السماسرة في الإسكندرية قائلة: "دفعنا له 800 جنيه، لكنه اختفى ولم نتمكن من التواصل معه بعدها. عرفنا لاحقا أنه فعل الأمر ذاته مع أكثر من أسرة"، وتشير إلى أن زيادة أسعار أكياس الدم عادت بالسلب على المريض وعائلته التي أصبحت مطالبة بدفع مزيد من التكاليف، إلى جانب السعي لإحضار متبرعين.

وعلى الرغم من أن القانون المصري يجرّم بيع الدم أو التجارة به، إلا أن الرقابة على هذه الممارسات ما زال ضعيفة. ويشير أحد العاملين في بنك دم تابع لمستشفى حكومي إلى أن الكثير من المتبرعين يطلبون بدل انتقال أو مكافأة "رمزية"، ما يفتح الباب أمام التحايل.

وزارة الصحة المصرية لم تنكر الأزمة. وفي تصريحات صحافية قالت الدكتورة فاتن مسعد (مدير عام خدمات نقل الدم القومية)، إن الوزارة أنهت العام الماضي مشروعا لربط بنوك الدم إلكترونيا على مستوى الجمهورية، بالتعاون مع الجانب السويسري، بهدف توحيد قاعدة بيانات المتبرعين.

لكن هذه الخطوة، رغم أهميتها، لا تزال في بداياتها. وبحسب مسؤول إداري في بنك الدم المركزي بالإسكندرية، فإن عملية الميكنة لم تُفعّل بعد في عدد من المحافظات بسبب نقص الكوادر المدربة ومشكلات البنية التحتية، وكشف أن المشكلة دائمة ومتكررة بشكل يومي، وخاصة أن المستشفيات تعتمد في الحصول على الدم على المتبرعين المتطوعين، وبالتالي فإن مشكلة نقص الدم أو عدم وجود بعض الفصائل النادرة أمر وارد، وفي الحالات الطارئة تتم الاستعانة أو اللجوء لبعض المراكز الصحية أو بنك الدم.

وأشار إلى أن الدم الذي يتم تحصيله من المتبرعين يخزن ويحفظ بعدما يتم التأكد من سلامته من الأمراض المعدية، وأهمها مرض الكبد الوبائي ونقص المناعة المكتسبة، بجانب سلسلة التحليلات الأخرى، والكثير من المرضى يحصلون على الدم بشكل مدعّم وفقاً للائحة وزارة الصحة، شاملاً اختبارات التوافق والفصيلة. وشدد المسؤول الإداري على ضرورة تعزيز ثقافة التبرع الطوعي، وتنظيم حملات دورية بالتعاون مع المساجد والمدارس والجامعات تحظى بدعم واسع من الإعلام والمجتمع المدني.

وتعتقد الدكتورة باكينام إبراهيم، طبيبة الطوارئ والمتخصصة في تقديم الرعاية الطبية الفورية للمرضى، أن أزمة الدم في مصر ليست تقنية فقط، بل تعكس أزمة ثقة عميقة بين المواطنين والنظام الصحي. وتضيف "كثيرون يرفضون التبرع لأنهم لا يثقون في عدالة توزيع الدم أو يخشون استخدامه في السوق السوداء. آخرون يرددون شائعات عن أضرار التبرع أو استغلاله تجاريا".

وتتابع: "كما أن ثقافة التبرع الطوعي ضعيفة نسبيا. معظم المصريين لا يقدمون على التبرع إلا في حال وجود مريض من الأسرة، ولا يدركون أن تبرعا منتظما يمكن أن ينقذ أرواحا كثيرة"، وتعتبر أن أزمة فصائل الدم النادرة هي قضية عالمية، ورغم إقناع وتفهم أفراد المجتمع بأهمية التبرع بالدم، فإن الحاجة ماسة إلى توعية المجتمع بأهمية قطرات الدم لإنقاذ المرضى.

وعلى الرغم من هذه الصورة القاتمة، هناك من يصر على العطاء. محمد خطاب، وهو شاب في الخامسة والعشرين من العمر، يتبرع بدمه كل ستة أشهر منذ كان في الجامعة، يقول لـ"العربي الجديد": "فصيلة دمي O–، وهي نادرة. شعرت بأن من واجبي التبرع باستمرار، كما أنني أتلقى اتصالات من أصدقاء ومعارف في الإسكندرية يطلبون المساعدة، وألبي النداء قدر استطاعتي".

وتنتشر في بعض كليات الطب والهندسة مبادرات طلابية تنظم حملات تبرع طوعي داخل الحرم الجامعي. كما ظهرت مبادرات مجتمعية مثل "متبرع من غير مقابل" و"قطرة حياة"، التي تحاول سد الفجوة بين الطلب والعرض عبر حملات توعية وجمع بيانات المتبرعين.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية