حمص مدينة الحب والحجارة السود
عربي
منذ 6 ساعات
مشاركة

حين تتجه إلى حمص، لا بد لك من الابتسامة، فأنت تدخل مدينة تذخر بالأساطير والحكايات، والتفاسير المثيرة،  فحمص المرصودة كما يقول أهلها، استطاعت أن تنجو من غزو المغول الذين أطاحوا أخواتها، في حبكات غريبة ومتناقضة.
حمص لا تعيش بها العقارب، ربما لتربتها المشبعة بالزئبق، وإن كان هذا الأمر لن يقنع الحماصنة، والرواية الحقيقية عندهم أن حمص مرصودة. 
هي مدينة ابن الوليد، نسبة إلى القائد الإسلامي الكبير خالد بن الوليد، الذي دفن فيها وصار من رموزها الخالدة، فمن النادر أن تذكر المدينة من دون أن يقترن اسمها باسم الصحابي الجليل، فقد اختار أن يُدفن فيها بعد أن اختارها لقضاء أواخر حياته، وأوصى بذلك، فصار قبرُه ومشهدُه من أبرز معالم المدينة وأكثرها قداسةً لدى أهلها، فرمزية ابن الوليد لدى الحمصيين لا تنبع فقط من مكانته الإسلامية والتاريخية، بل أيضاً من شخصيته التي تمثل صفات الفروسية والبطولة والانتصار، إنهم يرون في خالد امتداداً لروح مدينتهم المحتضنة أكثر من 450 صحابياً، دفنوا في ثراها، ففي قلب الشام وعلى ضفاف نهر العاصي، تنتصب مدينة حمص شاهدة على تعاقب الحضارات، وصراع القوى وتعايش الأديان، حاملة على كاهلها إرثاً عريقاً، وجغرافيا ذات أهمية استراتيجية لا تقلّ عن عظمتها التاريخية، فتاريخ حمص يعود إلى آلاف السنين،  أو إميسا كما كانت تعرف قديماً، من حين تأسيسها من جديد على يد الإغريق في العصر الهلنستي، كان لها مكانة كبيرة إدارية واقتصادية، ما تزال بعض آثارها الرومانية قائمة، فالمملكة المهمّة جعلتها مركزاً دينياً لعبادة إله الشمس، أو ما يعرف بإل غابال، امتداداً للإله الآرامي ايل جبال، اعتماداً على دراسات أشارت إلى المعبد الأكبر في قلعة حمص، بحسب الرحالة الإنكليزي روبرت كير بورتر عند العثور على عدة قطع من حجر سماقي صلب، هى بلا ريب بقايا الهيكل الضخم الذى كان يشغل هذا الموقع في وقتٍ ما بحسب بورتر، وإن كان هناك اعتقاد آخر يرجّح الجامع النوري الكبير، المقام فوق معبد كبير تحول إلى كنيسة، لتصبح خلال العصور الإسلامية، واحدة من أبرز مدن بلاد الشام، لما تمتعت به من مكانة عسكرية واقتصادية، لكونها نقطة وصل بين شمال سورية وجنوبها، وبين الداخل والساحل، فازدهرت في العهدين الأموي والعباسي، ومرّ بها علماء وفقهاء كثيرون، وإن تقلصت أهميتها في العصرين المملوكي والعثماني، في لعب دورها الحضاري، أمام مدن كبرى كدمشق وحلب، إلا أنها ظلت مركزاً حيوياً، وسوقاً زراعية وتجارية هامة، ومعبراً للقبائل والمقاتلين.

صدى العشق في الحروف
لطالما كانت حمص مدينة للشعراء، تُلهمهم بحجارتها السود وأزقتها القديمة ونهرها ومناخها، ومن أكثرهم شهرة: ديك الجن الحمصي (عبد السلام بن رغبان) من شعراء العصر العباسي، عاش حياة غريبة ومليئة بالتقلبات، كتب شعراً مفعماً بالوجد والحزن واللذة، وارتبط اسمُه بقصته الشهيرة مع زوجته ورد، والتي انتهت بمأساتها بسبب غيرته، وكم كان يرى في حمص مدينة للحب والتراجيديا، متّخذاً من شوارعها وأحيائها خلفية لقصائده المتأجّجة بالعاطفة والندم، وقصته التي كتب فصولها الشاعر الحمصي الشهير نسيب عريضة، شاعر المهجر وأحد أعلام الرابطة القلمية في نيويورك، والذي رغم اغترابه تغنّى بحمص في شعره وكتاباته، ولم يكتب فقط عن جمال المدينة، بل عن الحنين إليها، وعن طيبتها وبساطة أهلها وجمالهم، وخلدها في ذاكرة الأدب المهجري، فقال: أعرفتها؟ تلك الربوع العالية/ ما بين لبنان وبين البادية 
وفي موضع آخر صاغ عشقه لها فقال: يا جارة العاصي/ لديك السؤدد... لبنان دونك/ ساجد متعبـد

أم الحجارة السود
يطلق على حمص لقب أم الحجارة السود لطبيعة بنائها التقليدي بالحجارة البازلتية السوداء، التي منحت المدينة طابعاً خاصاً، ليس فقط في الجدران، بل في تفاصيل الحياة الحمصية في الحارات، في نوافذ البيوت، في المساجد والحمّامات القديمة، في حميمية فريدة بين الإنسان والمكان، تربط الذاكرة بالبصمة البصرية، بما يميزها عن سواها من المدن السورية، لون ربما انعكس على المزاج الفني والوجداني لأبنائها، فصارت المدينة ملهمة للحزن والحنين في آن، ذكرها ابن جبير الأندلسي حين مرّ بها، فقال: حمص فسيحةُ الساحة، مستطيلة المساحة، نزهة لعين مبصرها من النظافة والملاحة، وأهلها موصوفون بالنجدة والتمرّس، كما ذكر أن أسوارها غاية في العتاقة والوثاقة، مرصوصٌ بناؤها بالحجارة الصم السود، وأبوابها سامية الإشراف، هائلة المنظر رائعة الأطلال والأناقة، تكتنفها الأبراج المشيّدة الحصينة، وتجد في هذه البلدة عند إطلالك عليها من بُعد في بسيطها ومنظرها وهيئة موضوعها بعض الشبه بمدينة إشبيلية في بلاد الأندلس. وهنا الإشارة إلى أن إشبيلية إحدى أجمل المدن الإسبانية، كانت تسمّى في الأدب الأندلسي حمص، بسبب تشابه الموقع والتربة.

حمص وحماة: مزاح الأشقاء
من الظواهر الثقافية الظريفة التي تتردّد في سورية، المزاح المستمر بين أبناء حمص وحماة، على الرغم من القرب الجغرافي والتداخل الكبير بين المدينتين، نشأ نوع من المناكفة اللطيفة، التي تتخذ شكل نكاتٍ وسجالاتٍ طريفة، تحكي عن الفوارق في الطباع واللهجة وحتى الطعام، يتبادل فيها أهل المدينتين النكات من دون ضغائن، ويميل الحماصنة إلى تصوير أنفسهم الأكثر طرافة، في حين يصفون جيرانهم بالجدّية المفرطة. وعلى الرغم من أن هذا المزاح قد يحمل أحيانا طابع التنافس، إلا أنه يظل في إطار المودة، في تنافسٍ يعود، في جزء منه، إلى التماثل بين المدينتين من حيث الحجم والموقع الجغرافي، إضافة إلى تقارب الثقافتين، ما جعلهما مرآتين لبعضهما بعضاً في نواحٍ كثيرة، ومن التاريخيين من يرجع المسألة إلى طبيعة من سكن المدينتين من اليمنية والقيسية.

الجغرافيا السياسية 
تقع حمص في منتصف سورية تقريبا، وتربط بين الشمال والجنوب، وبين الساحل والداخل، وبين العاصمة دمشق والمنطقة الشرقية. لهذا كانت منذ القدم عقدة مواصلات، ومعبراً للطرق التجارية والعسكرية. كما أن قربها من الحدود اللبنانية أضفى عليها أهمية إضافية، وجعلها مركزاً للتفاعل الثقافي والاجتماعي، ما انعكس على طبيعة أهلها بخفة الظل، والنكات التي أصبحت جزءا من الثقافة الشعبية السورية، وما انعكس على علاقات أهلها اجتماعياً وتسامحهم الطائفي والديني، حيث عاش في المدينة المسلمون والمسيحيون عبر قرون من دون توترات تُذكر.
ليست حمص مجرد مدينة سورية. إنها لوحة فسيفساء من التاريخ والدين والفن والجغرافيا. 

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية