
بشكل أو بآخر، تبدو سورية اليوم أشبه بمغارة علي بابا بالنسبة لأي صحافي أو كاتب أو صانع أفلام، أو باحث اجتماعي، أو اقتصادي، أو أي مشتغلٍ بواحدة من تلك المهن التي تستخدم مادّة أولية هي الحكايات، لتصنع منها منتجاً نهائياً هو الحكايات.
فهو سيجد فيها كل صفات المناجم: مواد أولية طُمرت تحت التراب، وأُغلق عليها بإحكام، ومرّت بعصور جيولوجية متنوعة، وتعرضت لجميع أنواع الضغط وتبدّلات الحرارة، وكل تلك الظروف القادرة على صنع فلزّات نادرة وثمينة.
الآن، وقد انفتح باب الكهف، فكلّ ما على الباحث فعله هو أن يحمل كاميرته أو أوراقه وأقلامه، أو مجرد حواسه، وينحني ليلتقط كل ما تطاوله يده، يملأ حجره وجيوبه، ثم يخرج ليعرضها للعالم.
والأرجح أنه، وبعد مرور وقت كافٍ، وتراكم منتجات أدبية وفنية جيدة، سيُعيد العالم، ليس اكتشاف سورية فحسب، بل اكتشاف نفسه وبَشريته؛ لأن التجربة السورية النادرة، يمكن لها، إذا ما قُرئت بطريقة عميقة، أن تعيد تعريف الكثير من الأشياء، مثل قدرة التحمل لدى النوع البشري، ومعنى الدولة، والثورات، والطغيان، والوحشية، والمجتمع، والاقتصاد... وغيرها.
في الاقتصاد، وعلى الجانب الآخر، وبعكس ما يبدو، أسهل مهمّة تواجهها الحكومة السورية هي التخطيط، إذ يستطيع أي طالب في السنة الثانية من كلية الاقتصاد أن يضع خطة طويلة الأمد للاقتصاد السوري مستخدماً قلم رصاص ونصف ورقة، هو في الحقيقة يحتاج لكتابة جملة واحدة: كل شيء، لكن كي يصبح اسمها خطة فلا بدّ من أن تتزين ببعض التفاصيل، مثل: تطوير القطاع الزراعي، والصناعي، والسياحي، والمالي، والتركيز على إعادة بناء البنية التحتية، وتوفير الطاقة و.. وهكذا.
لدينا إذاً مَنجمان، واحد مليء بالحكايا والأفلام والكتب والمقالات، وواحد مليء بالاحتياجات، ولسبب ما، أرى ترابطاً وثيقاً بين المنجمَين، ونفقاً سرياً يربط بينهما، فالأول قاد إلى الثاني، والثاني عليه أن يكون علاجاً لآثار الأول.
ترتفع في الفضاء العام السوري هذه الأيام نقاشات واسعة، تحتدّ أحياناً، حول قضايا تفصيلية، أو إجرائية، أو حول أسماء معينة، تدور كلّها حول سؤال مركزي: ماذا علينا أن ننسى؟ وماذا علينا أن نتذكّر؟
في طريقنا نحو المستقبل، ما الذي يجب أن نحمله معنا من الماضي؟ وما الذي يجب تركه هناك؟
الجواب على هذا السؤال جوهر النقاش العام الآن، وسيبقى كذلك سنوات، فهذه طبيعة الأشياء، لأن لا جواب نهائياً ووحيداً لسؤال بهذا الحجم. وعليه لذلك أن يبقى سؤالاً مفتوحاً على المستوى الوطني. يحتاج منّا فقط، التخفيف من حدّة أجوبتنا، والتفكير قليلاً بالأجوبة الأخرى.
لست أميل إلى جواب دون آخر في أي نقاش من هذا النوع، أميل على نحوٍ حاسم إلى شرعية تعدّد الأجوبة، وأميل أكثر إلى الاقتراحات التي تنظر إلى المستقبل أكثر مما تنظر إلى الماضي.
مغارة الحكايات المليئة بالكنوز قد تؤثر في مشاعرنا، وبالتالي قد تدفعنا إلى اتخاذ مواقف عاطفية أحياناً، بينما يحتاج التفكير بالمستقبل شيئاً من برود العقل، ولكن، هل يستطيع العقل وحده أن يتصدى لمهمة كبيرة مثل تسكين الآلام، ولملمة الجروح المفتوحة، وإعادة بناء مجتمع متشظٍ، دون تربيتة على كتف هنا، ومسح دمعة هناك؟
أليست هذه الأفعال بتعريفها البسيط هي النفق السري الغامض الذي يربط مغارة حكايات تلك الآلام المنتمية للماضي بمغارة تلك الاحتياجات المنتمية للمستقبل؟

أخبار ذات صلة.
