المطربة حورية حسن... أغاني الحارة المصرية
عربي
منذ 4 ساعات
مشاركة

ذهب المطرب الملحن محمد الكحلاوي إلى مدينة طنطا ليحضر عرض أحدث أفلامه، فطلب منه مدير السينما أن يستمع إلى صوت مطربة صاعدة اسمها حورية حسن (1932 - 1994). استجاب الكحلاوي، واستمع فأعجب إعجاباً شديداً، واقترح على صاحبة الصوت الجميل أن تنتقل إلى القاهرة، لتنفتح أمامها أبواب الشهرة والتقدير، ولتحقّق أمنيتها الكبيرة بالغناء في الإذاعة المصرية، التي كان اعتمادها لصوتٍ ما، أكبر شهادة بالإجادة والتفوق والاستحقاق.

تأخر التنفيذ لفترة، بسبب عقبات أسرية ومجتمعية، ثم كان ما هو أشبه بحتمية قدرية، إذ انتقلت الفتاة إلى القاهرة، لتجد ترحيباً وعناية منحهما كل من يستمع إلى صوتها. في المقدمة من هؤلاء، محمد عبد الوهاب بكل تاريخه وخبرته ونفوذه. وانضم إلى الرعاة مدير الإذاعة، حسني بك نجيب.

ولدت حورية حسن في عام 1932، ونشأت في مدينة طنطا، ثم رحل والدها وهي ما تزال طفلة، فتولت أمها رعايتها وتثقيفها وتشجيع نشاطها الفني المدرسي. كان تأسيسها الفني كله في مدينة طنطا التي كانت تزخر بالموسيقيين والعازفين وأساتذة الفن، وعلى يد هؤلاء تعلمت حورية أوليات المقامات، وحفظت قدراً من عيون الموشحات والأدوار، مع إتقانها أغاني أم كلثوم. وحين انتقلت إلى القاهرة، أواخر الأربعينيات، لم تستغرق وقتاً طويلاً حتى وصل صوتها إلى كازينو بديعة، الذي كان يمثل أكبر ساحة للنشاط الغنائي والموسيقي والاستعراضي، ووجدت فيه فرصة لتقديم الألوان الغنائية التي تميل إليها.

في الإذاعة، بدأت حورية حسن رحلتها مع الأوبريت، الذي راكمت منه خلال حياتها رصيداً كبيراً من الأعمال الناجحة ذات الشعبية. كان أول هذه الأوبريتات "معروف الإسكافي"، الذي مثّل أوراق اعتماد الفنانة لدى الإذاعة، ولفت الانتباه إلى تميزها في هذا النمط الغنائي، وفي ما يعرف بالصورة الإذاعية. قدمت حورية هذا الأوبريت بصيغة من كلمات إبراهيم رجب، وألحان عبد الحليم علي، وإخراج عثمان أباظة، وقد وشاركها الغناء عبد الحليم حافظ، وحفصة حلمي، وشفيق جلال، وحسن أبو زيد. 

بعد "معروف الإسكافي"، وجدت حورية حسن نفسها في ميدان الأوبريت، وأعجب مسؤولو الإذاعة بصوتها وأدائها؛ فتوالت مشاركتها في أوبريتات: "البيرق النبوي"، و"شهرزاد"، و"يوم القيامة"، و"البروكة"، وأطلق عليها بعض النقاد لقب مطربة الأوبريت.

تزامناً مع نجاحها في تقديم الأوبريت، جاءت مشاركتها بالغناء السينمائي، الذي بدأته عام 1950 بفيلم "ليلة الدخلة" من إخراج مصطفى حسن، وبطولة إسماعيل ياسين، إذ قدمت محاورة غنائية مع المطرب أحمد قدري، ثم توالت مشاركاتها السينمائية: فيلم "بابا عريس" من إخراج حسين فوزي، و"ضحيت غرامي" من إخراج إبراهيم عمارة، و"الصبر جميل" لنيازي مصطفى، و"ابن النيل" ليوسف شاهين، وصولاً إلى آخر أفلامها "العلمين" في عام 1965، من إخراج عبد العليم خطاب.

وفي تجربتها السينمائية، كانت حورية حسن تهب العمل بغنائها قيمة مضافة، واستراحة يهدأ فيها المشاهد، وهو يستمتع بالصوت الدافئ القوي، سواء في المحاورات الغنائية التي شاركت فيها مطربين كباراً، مثل محاورتها مع محمد قنديل "عدى مليح الأوصاف" من فيلم "مليون جنيه"، بكلمات عبد الفتاح مصطفى وألحان أحمد صدقي، أو بغنائها الفردي، مثل "زفة العروسة" من فيلم "ثورة المدينة" الذي أخرجه حلمي رفلة، ببطولة محمد فوزي وصباح، في عام 1953.

وفي فيلم "أحبك يا حسن" الذي أخرجه حسين فوزي عام 1958، قدّمت حورية أغنيتين من أنجح وأشهر أغانيها، هما "يا أبو الطاقية الشبيكة" و"من حبي فيك يا جاري"، وكلتاهما من كلمات مرسي جميل عزيز وألحان محمد الموجي. عبر هاتين الأغنيتين، وصل صوت حورية إلى قطاعات جماهيرية أوسع، ونجح العملان في اقتناص موقع جيد على خريطة البث الإذاعي.

لكن أغنية من "حبي فيك يا جاري" واجهت في بداية إطلاقها بعض العقبات، فقد اعترضت عليها الرقابة بسبب كلمات المقطع الثاني التي تقول: "لما تصادف ع السلم... تصَبَّح ولا تسلم... قلبي بيرقص من الفرحة... والدنيا تدور حواليا... ما أعرف إن كنت أنا رايحة... ما أعرف إن كنت أنا جاية". ثم تراجعت الرقابة عن قرار المنع وقبلت الدفع الذي يرى أن كلمات المقطع التالي تبين أن "القصد شريف" وأن المقصود هو الزواج الشرعي: "يوم ما تخبط على بابنا وتجينا يا أعز أحبابنا". لم يكن هذا الموقف من الرقابة إلا واحداً من ضمن سلسلة مواقف هزلية يمكن أن يحويها كتاب ضخم يروي تاريخ المصادرة الموسيقية والمنع الغنائي لأسباب أقرب إلى عالم الكوميديا.

أصبح واضحاً لدى المؤلفين والملحنين أن الأغنية الشعبية بصوت حورية حسن تعرف طريقها إلى النجاح الجماهيري، فحرص أكثر الشعراء الغنائيين والملحنين على التعاون معها وتقديم الألحان ذات الطابع الشعبي أو الفلكلوري إليها، ومن هؤلاء الملحنين: عبد العظيم عبد الحق، وأحمد صدقي، وأحمد عبد القادر، وعبد العظيم محمد، وعزت الجاهلي، ومحمود الشريف، وحلمي أمين، ومحمد الشاطبي، وعبد الحميد توفيق زكي، وسيد مكاوي، ومحمد الموجي، وشفيق السيد، وسيد مصطفى، وإبراهيم رأفت، وعباس البليدي، وعطية شرارة، وحسين جنيد، وخليل المصري، وبالطبع مكتشفها محمد الكحلاوي. كان المشترك الجامع بين ألحان هؤلاء لحورية حسن أنها ذات طابع شعبي، قريبة من رجل الشارع، وربات البيوت، وجماهير الأرياف؛ فكان النجاح حليفها دوماً.

ويمكن أن نشير إلى واحد من أشهر أعمالها ذات الطابع الشعبي الصرف، وهو أغنية "رصة القلل" التي كتبها عبد الفتاح مصطفى ولحنها عبد العظيم عبد الحق، لأن هذا النمط من الكلمات يعتبر قد انقرض تماماً من القاموس الشعري الغنائي، وربما لا تعرف الأجيال الجديدة بعض مرادفاته، يقول المطلع: "رصة القلل على شكمتي البحرية... لاعبت ضفايري نسمة العصرية... وأنا رصة القلل". يرى عمار الشريعي أن هذه الأغنية تعد من أجمل ما يعرف بغناء الصورة.

لكن تفوق حورية حسن في اللون الشعبي لا يعني أنها أهملت الألوان أو القوالب الأخرى، لا سيما أنها خلفت إنتاجاً غزيراً ربما يجاوز 400 عمل. وتكشف قائمة أغانيها عن تنوع كبير في الأشكال والأغراض الغنائية. لدى حورية رصيد لا بأس به من غناء القوالب الكلاسيكية، لا سيما الأدوار والموشحات، وقدر أكبر من المواويل، وتضم قائمتها أغاني دينية مثل الابتهالات والأدعية وأغاني عن شهر رمضان ومناسك الحج، وأيضاً أغاني المناسبات الوطنية والاجتماعية، فتركت أعمالاً لثورة يوليو، والوحدة المصرية السورية، كما تركت عدة أغانٍ للزفاف والأفراح.

ويتذكر المستمعون أغانيها عن الحج "يا للي على عرفات" من كلمات عبد الفتاح شلبي وألحان محمد الكحلاوي، ومحاورة "يا ليالي منى" مع محمد عبد المطلب وألحان الكحلاوي أيضاً، وكذلك أغنية "يا رايحين للنبي" كلمات إبراهيم سرحان وألحان كامل أحمد علي.

وكل ذلك يؤكد أن حورية لم تنحصر يوماً في لون معين حتى لو كان اهتمامها بالأعمال الشعبية كبيراً. في الثامن من يونيو/حزيران عام 1994، رحلت حورية حسن، بعد أن تركت إرثاً فنياً جديراً بالإنصات والتأمل.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية