رأيتُ الأعور الدجال
عربي
منذ 3 ساعات
مشاركة

حين نحاول فهم ما يجري حولنا من فوضى وارتباك في المشهد العربي، نجد أنفسنا نعود لا شعورياً إلى الرموز الكبرى في تراثنا الديني، بحثاً عن تفسير أو حتّى عزاء. ومن بين هذه الرموز، يبرز "الأعور الدجال" بصفته أخطر فتنة حذّر منها النبي محمد (صلّى الله عليه وسلّم)، فتنة تتجاوز الزمان والمكان، وستكون، أشدّ وقعاً من الخيال.

الدجال، كما جاء في الأحاديث، ليس مجّرد رجل أعور يدّعي الربوبية، بل هو رمز للتضليل المنهجي، وللشرّ الذي يُزيَّن على أنّه خلاص، يحمل قدرات خارقة: يأمر السماء فتُمطر، والأرض فتنبت، يُحيي الموتى، ويأتي بالجنة والنار. وقد حذّر منه جميع الأنبياء لأنه يملك أدوات تفتن العقول، وتستعبد القلوب، لكن السؤال الجوهري هو: كيف للناس أن تتبعه، وهي تعرف أنه كاذب؟

من الأعور إلى الأنظمة.. حين يتجسّد الدجل

حين نراقب ما جرى في العالم العربي بعد الثورات، نجد أنّ فتنة الدجال لم تعد غيبية أو مؤجّلة، بل باتت محسوسة، ومرئية، وحيّة في تفاصيل المشهد السياسي اليومي.

رأينا أنظمة أوغلت في القتل والقمع وهي تدّعي أنها تحمي الوطن، وتحافظ على الاستقرار، وأنّ الخروج عليها خيانة ومؤامرة. رأينا حكّاماً يصنعون حول أنفسهم هالة من القداسة، حتى وصفهم بعض رجال الدين بأنهم "ولاة الأمر الذين لا يجوز منازعتهم"، رغم أنّ أفعالهم تخرق كلّ ما هو إنساني أو أخلاقي.

منظومة قائمة، تتحرّك بين الحكم، والإعلام، والدين المزوّر، وتسعى إلى تشكيل وعي زائف يبرّر الاستبداد

رأينا إعلاماً يُلمّع القاتل ويُشيطن الضحية، ويحشد الشعوب ضدّ الثوار باسم الوطنية، ويصوّر القمع على أنّه نصر. بل ورأينا جيوشاً تدمّر المدن وتُبايع على الولاء كأنها كتائب سماوية. فهل نحتاج أكثر من هذا لنفهم كيف يتبع الناس "الدجال"؟
إذا كان الطغاة (ومن دون أن يملكوا جنة أو ناراً) قد وجدوا من يسجد لصورهم، ويبكي بين أيديهم، ويفتي بقداستهم، فماذا لو جاء من يملك بالفعل أدوات الفتنة الكبرى؟

الدجل السياسي وصناعة الزيف

الدجال الحقيقي اليوم هو أعور الضمير، من يبيعنا الأوهام بعبارات مزيّنة؛ الإصلاح الاقتصادي، محاربة الإرهاب، السيادة الوطنية، بينما ينهب الثروات، ويعتقل الأحرار، ويعصف بالحريات.

إننا نعيش في زمن تُزيَّف فيه الحقائق على نحوٍ احترافي، إذ النفاق يُسمّى دبلوماسية، والتبعية تُسمّى تحالفاً، والخيانة تُسمّى تطبيعاً، والسجون تُسمّى إصلاحيات، والمقاومة تُسمّى إرهاباً.

في هذا السياق، يبدو أنّ الدجال ليس رجلاً فحسب، ليس كياناً سيأتي، بل منظومة قائمة، تتحرّك بين الحكم، والإعلام، والدين المزوّر، وتسعى إلى تشكيل وعي زائف يبرّر الاستبداد.

الفتنة ليست في الغيب فحسب

التحذير النبوي من الدجال ليس مجرّد نبوءة عن كائن خارق في آخر الزمان، بل درس دائم في مواجهة الدجل والخداع. فتنة الدجال هي فتنة تغييب العقل، وهي تحدث اليوم في أوضح صورها، حين يُباع الدين في أسواق السياسة، ويُساق الناس كالقطعان، ويُقدَّس الطغاة.

وإذا كان البعض قد سجد للدجال وهو يعرف كذبه، فذلك لأنّ الفتنة، كما أخبرنا النبي، عليه السلام، تعمي البصائر، وتلبس الحقّ بالباطل، حتى لا يبقى في الساحة إلّا مَن عصمه الله بالوعي، والبصيرة، والجرأة على قول: "هذا باطل ولو تبِعه الناس جميعاً".

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية