تقف البشرية اليوم على أعتاب تحوّل جذري لا يقتصر على تبدّل موازين القوى السياسية والاقتصادية، بل يتجاوز ذلك إلى مساءلة النموذج الحضاري (خاصة الغربي) السائد بأكمله، ففي ظلّ تصاعد العنف المنظّم وتفاقم الظلم، وانكشاف التناقضات الأخلاقية في خطاب الدول الكبرى، يُطرح السؤال الجوهري التالي: متى تبدأ السُنن الكونيّة عملها، وكيف نستحضر من مختبر التاريخ الإنساني قصص ودلالات قوس السقوط الحضاري لمن تجبّروا بوهم "القوّة العمياء"؟
ليست هذه المرّة الأولى التي تصل فيها حضارة بشرية إلى ذروة التفوّق المادي وتوشك في الوقت ذاته على الانهيار الأخلاقي والروحي، ولعل الولايات المتحدة الأميركية، في صورتها الراهنة، تمثّل تجسيداً معاصراً لتلك اللحظة. إذ ورثت زعامة العالم عقب الحروب الكبرى، وأقامت نظاماً عالمياً جديداً يرتكز على العسكرة والتكنولوجيا والتفوّق الاقتصادي، لكنها اليوم تواجه أزمات عميقة تضرب جذورها في الداخل: الفجوة الطبقية تتسع بشكل مُقلق، بينما تفقد المؤسسات ثقة الجمهور، ويشهد المجتمع الأميركي تمزّقًا حاداً حول الهُويّة، وصراعاً داخلياً بين تيارات متناقضة في القيم والمرجعيات.
خلف واجهة القوة العمياء، يتآكل الإيمان بالمشروع ذاته، في ظلّ تصاعد الاستهلاك وانهيار المعنى، وهو ما يعيد إلى الأذهان مشهد "إمبراطورية روما" في لحظاتها الأخيرة، حين ظنّت أنها خالدة، بينما كانت تنخرها عوامل التآكل من الداخل.
الكيان الإسرائيلي الذي تأسّس على نفي الآخر، بات في مواجهة حتمية مع مرآة التاريخّ
أما إسرائيل، فهي حالة استثنائية في التاريخ الحديث، تجمع بين الاستقواء بالأسطورة الدينية والتوسّع السياسي والعسكري، نشأت بوصفها مشروعاً استيطانياً مسنوداً بدعم غربي، وقدّمت نفسها باعتبارها "شعب الله المختار"، لكنها لم تلبث أن تحوّلت إلى كيان يمارس الاستعلاء والعنف باسم المُقدّس، ويتوسّل سرديات دينية لتبرير الاستيطان والقتل والتهجير.
غير أنّ الداخل الإسرائيلي بات يشهد تصدّعاً ملحوظاً، حيث تتفجر الخلافات بين التيارات الدينية والعلمانية، ويشتدّ الصراع بين المكوّنات الإثنية، ويغيب المشروع الجامع القادر على توحيد المجتمع. ومع تصاعد الوعي العالمي بعدالة القضية الفلسطينية، وتزايد الانكشاف الأخلاقي للجرائم التي تُرتكب بحقّ المدنيين، يتبدّى أنّ هذا الكيان الذي تأسّس على نفي الآخر، بات في مواجهة حتمية مع مرآة التاريخّ!
إنّ السُنن الكونية، بحسب ما تُجمع عليه الفلسفات الكبرى والنصوص الدينية وتجارب التاريخ، لا تجامل قوّة ولا تُهادن حضارة، ثمّة قانون لا يتغيّر؛ حين يُغتال العدل ويُهان الإنسان، تبدأ لحظة الانهيار والطوفان، وإن تأخرت مظاهرها، وهذه القاعدة تتكرّر في سياقات مختلفة، من دون حاجة إلى إعلان أو إنذار، ويكفي أن نعود إلى لحظات فاصلة من التاريخ، لندرك كيف تعمل هذه السُنن في الخفاء، بصمتٍ لا يخلو من الصرامة.
حين يُغتال العدل ويُهان الإنسان، تبدأ لحظة الانهيار والطوفان، وإن تأخرت مظاهرها
روما مثلاً، بلغت ذروة الهيمنة على العالم القديم، وشيّدت نظماً إدارية وهياكل قانونية أبهرت الشعوب، لكنها انهارت حين فقدت الروح والمعنى، وسادت فيها طبقة مُرفّهة منفصلة عن واقع الناس، وانغمس المجتمع في ترفٍ يعبّر عن خواء روحي عميق، سقطت روما لأن الفساد واللامبالاة حلّا محلّ الالتزام والفضيلة، وليس لأنّ أعداءها كانوا أشدّ بأساً، كما قال "القديس أوغسطين".
كذلك، حضارة الأندلس، التي بلغت من الرقي العلمي والفني والروحي ما جعل مدنها منارات للعالم، لكنها انقسمت على ذاتها، وفقدت وحدتها، ووقعت فريسة لأطماع الملوك وصراعاتهم، حتى سقطت من دون مقاومة تُذكر، لا بفعل الغزو، بل بانهيار داخلي تدريجي.
أما الاتحاد السوفييتي، فقد بدا إلى ما قبل سقوطه كقوّة لا تُقهر، يمتلك ترسانة نووية وإمبراطورية ممتدّة، لكنه انهار فجأة، لأنّ نظامه القائم على القمع وفرض الأيديولوجيا، كان قد فقد روحه، وفقد معه الشعب الثقة والإيمان.
بالمقارنة مع هذه النماذج، نجد أن الولايات المتحدة تجمع في لحظتها الراهنة بين ملامح سقوط روما وتفكّك الاتحاد السوفييتي، فهي قوة مهيمنة، لكنها تواجه انقساماً داخلياً مريراً، وتعيش أزمة قيم ومعنى، وتسعى لفرض قيمها كـ"معيار عالمي" بالقوّة، وتفقد تدريجياً ثقة شعبها، وتمرُّ في ما نسميّه لحظة "العجرفة الحضارية"، لكنها لحظة ما قبل الانحدار، حيث لا تزال مظاهر القوّة قائمة، لكنّ مشروعها الحضاري يواجه أزمة وجودية حقيقية.
وإسرائيل، تُحاكي طغيان فرعون في استعلائها، وتعيش مشهد الأندلس في تمزّقها الداخلي، وتستند إلى رواية دينية فقدت صدقيتها في ظلّ واقع دموي صارخ، إنها كيانٌ يعيش وهم القوّة العمياء، لكنه يغفل أن القوّة المجرّدة لا تصنع بقاءً، إذا ما تآكل العدل وغابت القيم.
لا يرتبط السقوط الحضاري بضعف مفاجئ أو هزيمة عسكرية، بل يبدأ حين تفقد الأمم روحها، ويتصدّع معناها الداخلي، وهذه اللحظة لا تُدرك بالحسابات السياسية فقط، بل بفهم أعمق للسُنن التي تحكم صعود الأمم وسقوطها، لكن التغيير لن يأتي من السماء وحدها، بل من يقظة ووعي الذين يعيشون في الأرض.
لقد آن أوان اليقظة، ليس لنشهد سقوطاً حضارياً وشيكاً فحسب، بل لنسأل أنفسنا: من سيكون جديراً بوراثة الحضارة؟ ومن يملك مشروعاً أخلاقياً يُعيد التوازن بين الروح والمادة، بين العدالة والقوة، بين الإنسان والتاريخ؟