"أنا لا أكتب من أجل الرجال ولا النساء، بل من أجل الحقيقة".
بهذا الصوت الواثق شقّت فاطمة المرنيسي طريقها في الفكر والسرد، لتصبح واحدة من أبرز الأسماء النسوية في العالم العربي. لكنها لم تكتف بالتنظير الأكاديمي بل اختارت أيضاً الرواية، لا بوصفها مُتنفّساً أدبياً بل أداة حفر معرفي عميق، تُعيد عبرها طرح الأسئلة الممنوعة، خاصة تلك الواقعة في تقاطع الحجاب، والحب، والجسد.
الحجاب جغرافيا للسيطرة
في روايتها "أحلام النساء الحريم" لا تُقدّم المرنيسي الحجاب شعارا أيديولوجيا، بل فضاء اجتماعيا مُعقّدا يُحدّد من يُسمح له بالحركة، ومن يُرسم له مسار السكون. الطفلة فاطمة في الرواية لا تفهم لماذا لا تستطيع اللعب خلف الحدود في الحيّ؟ ولماذا للرجال فضاء خارجي، بينما تُحاصر النساء في الداخل. هنا، يتحوّل الحجاب من مجرّد قماش على الرأس إلى بنية رمزية تشمل المكان والجسد والصوت. إنه ليس فقط ما يُلبس، بل ما يُسكت، ويُمنع، ويُنسى. لكن المرنيسي لا تُدينه بشكل تبسيطي. بل تُفكّكه. تشرح كيف أنّ النساء أنفسهن يُشاركنَ أحياناً في إنتاجه وإعادة فرضه، ليس كرهاً للحرية، بل خوفاً من الفراغ الذي تتركه الحرية في ظلّ غياب العدالة.
الحُبّ تهديداً، لا حلماً
في الرواية ذاتها، لا يظهر الحبّ خلاصا، بل تهديدا لبنية السلطة. فالمرأة المُحِبّة ليست فقط عاطفية، بل خارجة عن الطاعة، متمرّدة على النظام. ولهذا يتمّ حبس العواطف كما يُحبس الجسد. تتساءل المرنيسي على لسان شخصياتها: هل يمكن للمرأة أن تُحب من دون أن تُعاقب؟ هل يمكن لها أن تُظهر شغفها من دون أن تُتهم بفقدان (الحياء)؟ هل الحب حلال للرجل، وحرام على المرأة لأنها مصدر فتنة؟
لا تُقدّم المرنيسي الحجاب كشعار إيديولوجي، بل كفضاء اجتماعي مُعقّد يُحدّد من يُسمح له بالحركة، ومن يُرسم له مسار السكون
الأسئلة لا تُطرح فقط من باب النقد، بل من داخل الذاكرة الجماعية، من المطبخ، وساحة المدرسة، والحدود التي ترسمها الأم والخالة والشارع.
التديّن مقابل الروحانية
فاطمة المرنيسي لا تعلن الحرب على الدين، بل تميّز بذكاء بين الدين تجربةً روحيةً شخصية، وبين ما تسميه بالفقه الذكوري. وهي في ذلك، تستدعي نماذج نسائية من التاريخ الإسلامي، من رابعة العدوية إلى حفصة بنت عمر، لتُظهر أنّ الحبّ والقداسة لا يتناقضان، وأنّ المرأة ليست طارئة على التجربة الإيمانية، بل أصيلة فيها.
وهنا تُصبح الرواية لديها أداة تفكيك للذاكرة الرسمية، وإعادة تشكيل سردية لا تجعل من المرأة، إمّا جارية أو فقيهة منزوية، بل كائناً معقّداً، يُحبّ، ويُخطئ، ويسأل، ويطلب الله والحياة معاً.
المرأة المُحِبّة ليست فقط عاطفية، بل خارجة عن الطاعة، متمرّدة على النظام
السرد ساحة مقاومة
المرنيسي لم تكتب لتجعل المرأة بطلة خارقة بل لتظهر هشاشتها، وقوّتها الناعمة، وقدرتها على المناورة. فهي في "نساء على أجنحة الحلم" لا تُقدّم النماذج النسوية ضحية فقط، بل مُخترِقات للأسوار ولو عبر الحيلة، أو الخيال، أو السخرية. الحبّ هنا لا يُنتَظر فقط من رجل، بل من الحياة، والحجاب لا يُرفض لأنه ديني، بل لأنه يصبح في كثير من الأحيان أداة إسكات بدلاً من خيار.
من الحريم إلى الساحة العامة
إذا كان الحريم فضاءً مُغلقاً تقليدياً، فإنّ المرنيسي تنقل السرد إلى الساحة العامة، إلى المواجهة مع الدولة، الإعلام، السوق، والعولمة. المرأة في رواياتها ليست فقط ضدّ التقاليد، بل تواجه نظاماً متعدّد الرؤوس: السلطة الأبوية، القمع السياسي، التفسيرات المُغلقة للدين، وحتّى النسوية الغربية التي لا تَفهم السياق، وهنا يكمن تَفرّد فاطمة المرنيسي؛ إنها لا تكتب من أجل تمكين المرأة فقط بل من أجل استعادة الإنسانية عبر السرد، من أجل تفكيك الصورة وإعادة رسم العلاقة بين الفرد والمجتمع، بين الجسد والحقّ، بين الحبّ والحرية.
روايات فاطمة المرنيسي ليست مجرّد أدب نسوي، بل دروس في التحرّر المركّب. هي لا تعطينا أجوبة، بل تحرّضنا على أن نسأل. لا تفتح باباً للهروب، بل نافذة للمعنى. وفي عالمٍ يزداد انغلاقاً تُذكّرنا المرنيسي أنّ بين الحجاب والحبّ هناك دائماً حكاية امرأة تقاوم كي تقول: أنا أُحب، إذاً أنا موجودة.