"السينما المؤجّلة" لمحمد سويد: الذاتيّ يؤرّخ ويُحلِّل
عربي
منذ 14 ساعة
مشاركة

 

يصعب تصنيف "السينما المؤجلة ـ أفلام الحرب الأهلية اللبنانية" لمحمد سويد في نوعٍ محدَّد. فالعنوان يوحي أنّ الكتاب بحثٌ يجمع النقد بالتأريخ، والنص يقول إنّ المكتوبَ مرتكزٌ على بوح ذاتي وتحليل سياسي ـ اجتماعي ـ اقتصادي، مع تفسيرات مرتبطة بالطائفي والديني، اللذين يُشكّلان العَصب الأبرز والأهمّ والأخطر للتركيبة اللبنانية. لكنّ الجامع بينها كلّها متمثّل بالسينما.

فذاك الفنّ شغف سويد وعيشه وانفعاله (من دون التغاضي عن مكوّنات أخرى تصنع شخصيته، وعن تراكمات معرفية تُشكّل أسلوبه في الإخراج والكتابة والتفكير والنقاش)، لكنّه (الفنّ) غير محصور في أفلامٍ تُشاهد وتُقرأ، والقراءة تكون كتابة وحواراً وسجالات، إذْ ينفلش على الجغرافية اللبنانية (بيروت غالباً) زمن تلك الحرب (1975 ـ 1990)، علماً أنّ النصّ منتهٍ عام 1986، أي تاريخ صدور الطبعة الأولى عن "مؤسسة الأبحاث العربية". أمّا الطبعة الثانية (2024 نادي لكلّ الناس)، فتحافظ على الأصل، مع أنّ الحاصل سينمائياً بعد 1986 غنيّ بما يحفّز على كتابةٍ تستكمل المكتوب، وتُثريه بفضل مزيد من تراكمات واختبارات ومشاهدات واشتغالات، ومن أحداثٍ لبنانية بحتة، وأخرى عربية ودولية لها تأثيرات جمّة، بعضها خطر، على البلد وناسه، كما على التركيبة اللبنانية نفسها، وعلى ثقافته وفنونه أيضاً.

بسلاسة سردية، تؤكّد أنّ الكاتب روائيّ يحكي قصصاً من ماضٍ غير بعيد؛ وبذاتيّة غير مانعةٍ من معاينة وقائع وتفاصيل، تُغربَل نقدياً في نصّ مفتوح على ذاكرة فردية متأتية من عيش يومي مباشر في المدينة، قبل اندلاع تلك الحرب وفي عشريّتها الأولى، وعلى مرويات مخزّنة في ذات كاتبها، ومحمّلة بما يعكس أنماط حيوات وتفكير وممارسة مهن سينمائية عدّة؛ يكتب محمد سويد نصّه، أي حكايته مع السينما وأفلامها (له كتاب ثانٍ بعنوان "يا فؤادي"، صادر عن "دار النهار للنشر" عام 1996، يوثّق "سيرة سينمائية عن صالات بيروت الراحلة")، والإنتاج وظروفه، والسياسة والطوائف المتسلّطة على كلّ شيءٍ في البلد، والمدينة وتمزّقاتها، والثقافة والفنّ واستناداتهما الطائفية والمذهبية.

للعامل الفلسطيني، الفاعل كلّياً في البلد، أقلّه منذ عام 1970 ("أيلول الأسود"، الأردن)، حضورٌ في الكتاب أيضاً. ذاك أنّ أفلاماً "لبنانية"، منتجة عشية اندلاع الحرب الأهلية (13 إبريل/نيسان 1975) وفي عشريتها الأولى، معنية بفلسطين، شعباً ومقاومة وقضية وعيشاً، وأخرى مُنتجة/مُموّلة فلسطينياً. والنصّ، إذْ يوثِّق مرحلة بمضامينها المختلفة والمتناقضة، يغوص في هموم سينمائيي تلك الفترة وسينمائياتها، ومشاغلهم الفكرية والتزاماتهم الاجتماعية والعقائدية (بعض هؤلاء ملتزم يسارياً وفلسطينياً وعروبياً)، من دون أنْ يتغاضى (النصّ) عن الشكل السينمائي، المحتاج أساساً إلى تحليل نقدي معمّق، خاصة أنّ الموضوع المختار غالبٌ بكثرة على أسلوب الاشتغال وأدواته.

 

 

لعلّ هذا كلّه يوحي أنّ "السينما المؤجلة" وكاتبها يهجسان بأفلامٍ، تُعتَبر نقدياً غير تجارية وغير استهلاكية فقط. القراءة، أو إعادة القراءة، تكشف أنّ التجاريّ (وبعض التجاريّ مُشاهَد بوفرةٍ، رغم معارك ونزاعات مسلّحة) حاضرٌ، وحضوره متأتٍ من حضوره الأول في المدينة وبين ناسها، ومن تأثيراته المختلفة في "المشهد السينمائي" المحلي، وهذا دافعٌ إلى قراءته وقراءة تأثيراته. حضوره يقول أيضاً تفكيراً ونمط عمل لمهنيّين عديدين، يعملون في الإنتاج/التمويل والتوزيع والصالات.

هاتان الفئتان (التجارية وغير التجارية) حاضرتان في فيلموغرافيا، منشورة في فصل أخير بعد فصل خاص بصُور فوتوغرافية من أفلام عدّة. ولغير تلك الفئة أيضاً حضور في الفيلموغرافيا نفسها: أفلام سوبر ـ 8 ملم، أفلام تلفزيونية، أفلام الفيديو. في فقرة الأفلام الوثائقية، هناك نوعان: أفلام عن لبنان والحرب، وأخرى عن مواضيع غير لبنانية. أمّا الأفلام الروائية، فمفصّلة تقنياً (معلومات عن عاملين وعاملات في أبرز الاشتغالات الدرامية والفنية والتقنية، إضافة إلى تواريخ العروض الأولى وصالاتها)، لكنْ من دون تلخيص مضامينها.

للطبعة الثانية هذه مقدّمة، يروي محمد سويد فيها تفاصيل متعلّقة بمشروع إعادة الإصدار، مستعيداً ذكريات ماضٍ شاهد على ظروف الكتابة ومناخها وأدواتها (غالبية تلك الأدوات، من ورق وأقلام مثلاً، غائبة بشكل شبه تام عن أدوات الكتابة الآنية)، كما الطباعة وتقنياتها. يكتب: "في مكاتب "السفير" (يومية سياسية لبنانية، 1974 ـ 2016؛ المحرّر)، وُلدت فكرة "السينما المؤجّلة". لا بُدّ من شكر وعرفان مضاعَفين بعدد السنين الفائتة وأكثر للروائي الياس خوري (1948 ـ 2024؛ المحرّر) على حبّه وصداقته وأمانته في إصدار الكتاب عن "مؤسّسة الأبحاث العربية". لدى مراجعتي الطبعة الثانية، تملكني جزع من مرور أربعين عاماً على طبعته الأولى. كأنّ من كتبها شخص آخر كنته وما عدته. احتراماً له، تركت النص على أصله. لم أغيّر فيه شيئاً، عدا تصحيح أخطاء مطبعية، وصوغ فقرتين التبستا على القارئ من جرّاء سقوط أسطر منها سهواً في الطبعة السابقة" (ص 14).

إعادة قراءة "السينما المؤجلة" تتيح عودة "آمنة" إلى غليان حربٍ واشتغالات، لتذَكّر زمنٍ مليءٍ بهواجس مُطعّمة بأمل غلبة الحرب وصانعيها، قبل انكسار الأمل بنهاية معلّقة للحرب، وسلم هشّ وناقص. زمن صحيفة بيروتية تكون أساس وعي ومعرفة واختبارات، وزمن صداقات، رغم قلّتها باقية إلى الآن.

أمّا الكتاب، فنموذج عن كيفية التوفيق بين أنواع أدبية ونقدية وانفعالية، من دون وقوع في فخّ الذاتية الفجّة، فالذاتية هنا تتوازن وخصوصية المرحلة والمدينة والحياة فيهما.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية