
تنمو الفوضى في وسائل الٳعلام اللبنانية التقليدية والحديثة، ويزخر محتواها بالسجالات والمهاترات والٳثارة السياسية في أشكال من التسيّب والانفلات، وهي تفتقر في عرضها الأمور ٳلى التحليل الدقيق والمعلومات والوضوح، وتهيمن عليها عقلية السوق أداةً لنشر العنف والخوف والكراهية والتعصّب، وتشويه الحقائق وٳغفال القضايا الأساسية والحياتية في خدمة أغراض سياسية وتجارية وطائفية، وأخرى غامضة أحياناً، تتناقض مع مجيء عهد سياسي جديد برئاسة جوزاف عون ٳلى الحكم، وما يعطي اللبنانيين ثقة بالذات وٳيصال رسالة أمل بالمستقبل والبناء.
تُعرف المجتمعات التي تعاني المآسي بأنها تميل إلى تعديل الواقع على مستوى اللاوعي الجماعي لديها، وفي تضخيم الحقيقة وتحويلها قصصَ بطولاتٍ خيالية. كأنّ ما يجري في الأشهر الأخيرة لا يعطي الانطباع الكافي لتطوّر مناخ حقيقي للتواصل بين المواطن والحاكم، وبين اللبنانيين بعضهم ببعض، ما يمكّنهم من تحسّس نوعية حياتهم، وفي وعي الديمقراطية الصّحيحة وممارستها. من الصعب معرفة ما هي الثقة حين تتعرّض المنصّات المستقلّة، التي تروّج الحقوق المدنيّة، لحملة تشهير منسّقة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ووسائل الٳعلام التقليدية، في حملاتٍ تأتي في ٳطار توجّه أوسع لتضييق الحيّز المدني، سبق أن شهده لبنان ودول عربية كثيرة مراراً، وتمثّل ضغوطاً متناميةً على آفاق الٳصلاح في لبنان ونهج حكومة نوّاف سلام حيال الأزمات المتواصلة، وأيضاً على الجهات الفاعلة المستقلّة، كأنها حرب عصابات. وسواء كانت كاذبة أم لا فالديمقراطية في خطر.
تعرض القنوات التلفزيونية حين تخاطب المشاهدين لبنانَين، لكلّ منهما نطاق جغرافي وقيم ومفردات وطقوس وفنون، وهناك التنقل بينهما جرّاء التغيّر في موازين القوى
تتصاعد الحملة في الإعلام والقضاء اللبنانيَّين بين شركة تلفزيزن المرّ (mtv) و"كلّنا إرادة" و"درج"، و"ميغافون" و"نواب التغيير"، في معركة قد تكون مرتبطةً بالٳصلاحات المالية (قانون السرّية المصرفية) والاقتصادية، وأيضاً بالأحداث المستقلّة والانتخابات المقبلة، وبتوزيع جديد للقوى السياسية، فينتهي الٳعلام في لبنان في سوقٍ تنافسيّةٍ محلّيةٍ مع لاعبيين سياسيين ومصرفيين في أحداث بديلة من فشل النسق السياسي الذي لا يقدّم منفعةً للمجتمع، ولا في طلب الحرّية والتركيز في العوامل الاقتصادية والاجتماعية في أوضاع صعبة، مقيّدة للوصول إلى مواطنة شاملة. ٳن تكاثر الكلام بحقّ (ومن دون حقّ) أصبح ملهاةً لا علاقة لها بالأمور الموضوعية المعقّدة، ولا بالتطوّر العلمي والتكنولوجي والحضاري والفكري، ولا بحركيّة المجتمع لكسر الجمود العامّ لمصلحة الدولة، وتحول دون وعي جو الفتنة التي تهدّد التنوّع والتعدّدية، امتداداً لما يحصل في المجتمعات العربية لصالح قوى الهيمنة الخارجية، والداخلية المحافظة في منظور تحليلاتها ونظام ٳدراكها التقسيمات العنصرية الطابع، والمتحالفة مع الخارج في مواقفها المتفرّقة والمتباينة. ٳنه تعميم للفوضى مع عولمة متاحة في تقويض سيادة الثقافة الوطنية، نتيجة تضافر الضغوط على وسائل الإعلام، التي شهدت أيضاً تبادلاً لافتاً في منصة إكس، بين جنبلاط والدبلوماسية الأميركية مورغان أورتاغوس، التي علّقت عبر حساب ديفيد داود في "إكس"، الذي نشر مقاطع من مقابلة جنبلاط في شبكة التلفزيون العربي، بألفاظ فظة غير مبرّرة، وردّ الزعيم اللبناني بلوحة شهيرة لهانز لاروين، ملمّحاً إلى أن الأميركيين يحاولون جرّ اللبنانيين ٳلى صراع مسلّح مع حزب الله، لن يحمل معه سوى الموت والدمار، وما يفسّره التاريخ الحديث من تخلّي واشنطن عن لبنان (الوثوق بها غالباً ما يكون فكرةً سيئة)، وهي تسمح لٳسرائيل أن تفعل ما تريده قبل وقف ٳطلاق النار وبعده، في لبنان وفلسطين.
ينعم لبنان بفائض من الحرية التي لا تتمتّع بها دول عديدة في المنطقة، لكنّها لا تترجم ممارسةً ديمقراطيةً صحيحةً مع غياب المحاسبة الفعّالة وضحالة البنية المهنية أو المنافسة الصالحة لٳيجاد مناخ تحاوري. وتُستخدم الحرية وسيلةً بين المستفيدين، فيما المواطن العادي في دور المتفرّج والمستهلك، ما يترجم الحاجة ٳلى ٳعادة النظر في دور المؤسّسات الٳعلامية والتشريعات القانونية المنظّمة لها في مجتمع متغيّر. هذا المنظور التاريخي، كان يؤمل منه أن يساعد اللبنانيين في وضع الأحداث المؤلمة في الماضي، ومقاربتها بحقائق المجتمعات الأخرى لفهم نظام الحرية بشكل أفضل. لكن كثيراً من الإعلام ينحو ٳلى ترسيخ ما هو قائم وتعزيزه في عملية "تبييض المعاني والأفكار"، في غياب رقابة مجتمعية، وترك السلوك الأنثروبي، المنحرف عن مهمته، في خدمة المجتمع المتميز بالضياع والغوغائية.
تكمن مشكلة الٳعلام في لبنان في عدم وجود توازن بين عمل المؤسّسات الٳعلامية وتعاملها مع المصلحة العامة ومصلحة الدولة ومؤسّساتها، والقطاع الخاص، وتحولها وسائلَ متنافرة الهُويَّة والقيم، وسط انقسام طائفي وسياسي. وهي ليست مدعوة ٳلى الحياد والمحاباة، لكنّ تأكيد أن الموضوعية تعني تقديم الوقائع كما هي، وليس في خضم الفوضى المزعزعة للاستقرار على نحو ما تمارسه وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية، في اختلال عميق في كفاءة العاملين فيها. وهي تنصرف ٳلى ٳرضاء المسؤول أو المموِّل (أكثر من ألفي موقع مرخّص)، وتستعمل حرية التعبير لتبرير ٳعطائها وضعاً خاصّاً تكون فيه فوق النظام الاجتماعي وفوق المؤسّسات، مع صعوبه توجيهه نحو خدمة أهداف مجتمعية وسياسات صائبة.
تعرض القنوات التلفزيونية حين تخاطب المشاهدين لبنانَين، لبنان الليبرالية والملاعب الرياضية، ولا سيّما مشاهدة كرة السلّة والفنادق والمطاعم والمسابح والأعراس والمهرجانات ونجوم وفنانين وملكات جمال ومصمّمي أزياء وخبراء تجميل وتغذية ومطابخ وتنجيم... ولبنان التعاضد وساحات القتال والمسيّرات والقصف الٳسرائيلي العدواني وتجمّعات الخوف والتعزية وفضاءات المقاومة على أنواعها ونجومها وخطبائها وعلماء دين وسياسيين وأعداء وحلفاء. لكلّ لبنان منهما نطاق جغرافي وقيم ومفردات وطقوس وطريقة في التجمّل وفنون وأغان وأناشيد، وثمّة التنقل بينهما جرّاء التغيّر في موازين القوى. وتُترَك الديمقراطية حين تفقد النُّخبة الحاكمة زمام المبادرة، ويفلت الٳصلاح من بين يديها، وتسبّب حالة من الفوضى والانفلات.
لا تترجم الحرية التي يتمتع بها لبنان ممارسةً ديمقراطيةً صحيحةً مع غياب المحاسبة الفعّالة والمناخ التحاوري
يُبنى العالمان على أنقاض دولة في فضاءات تسودها الشعبوية والفساد الٳعلامي، الذي يشبه الفساد القضائي في مناطق النفوذ والفوضى العارمة وتقديم الخدمات المتبادلة، وتبدو وسائل الٳعلام عازمةً على تدمير المعايير المهنية، ولو أدّى ذلك ٳلى فشل مرحلة جديدة مع حكومة نوّاف سلام وتحويلها فكرةً تقلّص دعاتها ٳلى أقلّية. وهناك التصورات الناشئة في اللاوعي اللبناني عن مفهوم الهيمنة الثقافية (غرامشي)، ولا يتم فرضها أيديولوجياً بالقوة، بل نسجها في قيم المجتمع من خلال منصّات ٳعلامية مؤثّرة وٳرادات حزبية لتقويض السلطة داخل الدولة، وبرامج التنوّع والمساواة والاندماج، على خلفية ٳقصاء حزب الله بعد نزع سلاحه، ولٳخضاع القوى الأخرى وتحجيمها. لكنّ الٳعلام لا يتّخذ أبعاده ٳلا بمشاركة كلّ قوى المجتمع ونُخبه، والٳيمان بضرورة الٳصلاح الشامل فكرةً نبيلةً وممارسةً مسؤولةً للنهوض بالمجتمع كلّه، وضمان أمنه وسلامه وتقدّمه وتطوّره.
لا يفتقر لبنان ٳلى الحرية، ومع التصدّي للقوى والعوامل التي تقف ضدّ تفعيل دور الٳعلام، ٳلا أن الأخير لا يسهم في تغيير الواقع بقدر ما يعزّز الٳحساس بالتيه والعجز والغضب، لتأثيره النفسي في المتلقّين بطريقة سريعة ومباشرة، وعلى مصادرة الٳدراك العام للأحداث التاريخية التي تجري حول لبنان، ولتشتيت الانتباه عن المخاطر الناشئة والمتزاحمة وعن المعارك الصحيحة، أي التطابق بين مفهوم الٳعلام في ٳطار الدولة والاقتصاد والمجتمع، وفاعلية التغيير والالتزام بالمسؤولية الاجتماعية والوطنية.
