
دبّت الحياة في البلديات اللبنانية في الأسابيع الأخيرة لتستيقظ من سباتٍ فرضته الأزمات على البلاد، وتمضي على صوت السعي لصناديق الاقتراع. شوارع تُعبّد على عجل، نفايات تُزال من زوايا كانت قد نسيتها الشاحنات، مياه تتدفق بعد جفاف طويل... لا لشيء، إلا لأن موسم "الحساب" اقترب. حساب لا علاقة له بالمساءلة، بل بالتصويت. تبدأ الأحد المقبل رسمياً الانتخابات البلدية في لبنان للمرة الأولى منذ آخر انتخابات جرت في 2016، ومعه عاد مشهد الدولة التي يقول مواطنون إنها لا تتذكّرهم، إلا في المناسبات ووقت الانتخابات. تأتي الانتخابات البلدية في لبنان بعد سلسلة من التأجيلات والتعديلات جعلت المجالس البلدية مُمدَّدة الولاية، بعد انتهاء ولايتها الأساسية في عام 2022، في وقت كان عدد كبير منها منحلاً أو معطلاً، ما جعل الكثير من البلدات تعيش فراغاً إدارياً وخدماتياً لسنوات. تُجرى الانتخابات البلدية في لبنان هذه المرة وسط شبه إجماع سياسي غير معتاد على ضرورة عدم التأجيل، بدءاً برئيس الجمهورية جوزاف عون، وصولاً إلى معظم القوى السياسية الكبرى باستثناء "تيار المستقبل" الذي لا يبدو مكترثاً، بعدما أعلن رئيسه سعد الحريري أخيراً عدم خوض الانتخابات البلدية في كل المدن والبلدات اللبنانية، انطلاقاً من قناعة التيار بأن هذا الاستحقاق "إنمائي وأهليّ" الطابع، وليس سياسياً.
عمار عبود: أتوقع مشاركة متواضعة في الانتخابات لغياب الحماسة الشعبية
وفي بلد موزّع إدارياً على ثماني محافظات و25 قضاءً، وتديره 1080 بلدية، ستوزع العملية الانتخابية على أربعة مواعيد تبدأ في جبل لبنان بتاريخ 4 مايو/أيار، ثم في الشمال وعكار بتاريخ 11 مايو، فبيروت والبقاع وبعلبك ـ الهرمل بتاريخ 18 مايو، وتختتم في الجنوب والنبطية بتاريخ السبت 24 مايو وليس الأحد 25 لتزامنها مع عيد المقاومة والتحرير (بمناسبة انسحاب الجيس الإسرائيلي من جنوب لبنان في عام 2000). ويأخذ هذا التوزيع في الاعتبار التوازنات الطائفية والجغرافية الدقيقة التي لا تزال تحكم الحياة السياسية اللبنانية حتى في أدق تفاصيلها.
صناديق اقتراع... لخرائط النفوذ
يجري هذا الاستحقاق وفق أطر قانونية متعدّدة، في مقدّمها قانون البلديات الرقم 118/1977. ويُشارك في الاقتراع كلّ من بلغ الحادية والعشرين من العمر، شرط أن يكون اسمه مدرجاً على لوائح الشطب، وأن يقترع في مكان قيده الرسمي (رقم السجل). هذا العام، تأتي الانتخابات البلدية في لبنان في سياق سياسي دقيق، يتّسم بانطلاقة عهد رئاسي جديد وحكومة رفعت شعار الإصلاح، متبنية خطاب القسم باعتباره مشروعَ عمل. ومن أبرز تحدياتها إعادة تكوين الإدارة اللبنانية، بدءاً من التعيينات الأمنية والمالية والقضائية، وصولاً إلى الإشراف على هذا الاستحقاق البلدي لتجديد السلطات. وخلف مشهد إداري باهت، تشتعل معارك سياسية خفيّة لا تهدأ. الانتخابات البلدية في لبنان في العام الحالي ليست مجرد استحقاق محلي عابر، بل تُعد بمثابة "بروفة" تمهيدية لمعركة أكبر: الانتخابات النيابية المقبلة في العام المقبل. ويسعى كل حزب لتثبيت حضوره الشعبي وإثبات أن قاعدته لا تزال متماسكة من حوله. في هذا السياق، لا تُقاس النتائج فقط بعدد البلديات التي تفوز بها القوى السياسية، بل بالصورة السياسية التي سترسمها صناديق الاقتراع، والتي ستُستثمَر لاحقاً في سباق التمثيل البرلماني والصراع على السلطة. غير أن هذه "البروفة" لا تجري على أرضٍ متكافئة. فالمعارك البلدية تشهد تفاوتاً كبيراً بين منطقة وأخرى، ليس فقط على مستوى الحماوة السياسية، بل أيضاً من حيث الميزانيات والإمكانات المتاحة. هناك بلديات غنية تتمتع بموارد ضخمة وشبكات نفوذ محلية، وأخرى "فقيرة" بالكاد تؤمن أدنى مقومات العمل البلدي.
آمال شباب وترهل شارع
كذلك، يلاحظ تفاوت في الحماسة السياسية والشعبية لهذا الاستحقاق لاعتبارات متعددة. في محافظة جبل لبنان، أولى المحطات الانتخابية حُسمت نتائج ما لا يقلّ عن 35 بلدية بالتزكية من أصل 330، أغلبها في بلدات صغيرة اعتادت تقاليد التحاصص العائلي والتسويات الهشة، حيث تُوزَّع الحصص من دون حاجة إلى صناديق اقتراع أو خطابات انتخابية. تقول ليلى سليم، من جبيل، شمال بيروت: "الانتخابات البلدية في لبنان كلها توزيع حصص. من زمان البلديات بلبنان مش إنماء، هني دواوين سياسية للعائلات والأحزاب. ما راح يتغير شي، لشو عذب حالي؟". ومع ذلك، هناك من لا يزال يتمسك بالمشاركة. رامي الحلبي، شاب ثلاثيني من بيروت، يصرّ على أن المشاركة ضرورة لا خيار. يقول: "الانتخابات حقّ. والتغيير يبدأ منّا، من أصغر معركة. لا يجوز لنا أن نقف على الهامش ونتفرّج. إن كنّا نريد التغيير حقّاً، فعلينا أن نشارك في الاقتراع".
معركة وجود بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية
خلف الهدوء الظاهري في جبل لبنان، تبدو معركة أكثر شراسة سياسياً بين القوى المسيحية الكبرى. على هذه الجبهة، يخوض حزب القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع معركة إثبات الوجود، ساعياً لتكريس موقعه بكونه قوةً أولى في الشارع المسيحي، على حساب خصمه التقليدي، التيار الوطني الحر. أما التيار، الذي كان حتى الأمس القريب في موقع السلطة، فيخوض هذه الانتخابات البلدية في لبنان للمرة الأولى من موقع المعارضة، مثقلاً بخسارته امتيازات الحكم وبالانقسامات الداخلية التي ضربت صفوفه وأضعفت حضوره الشعبي.
علي مراد: الواقع في القرى الأمامية الجنوبية يظهر حجم النكبة والانتخابات ليست أولوية للناس
حزب الله وحركة أمل واختبار الشعبية في الجنوب
بعد الحرب العنيفة التي عصفت بلبنان، ولا سيما في الجنوب، يتمسك رئيس مجلس النواب نبيه بري وحزب الله بإجراء الانتخابات البلدية في لبنان في موعدها مهما كانت التحديات. حتى لو اضطر الأمر، كما يلوّحان، إلى إقامة مراكز اقتراع بديلة عبر نصب خيام انتخابية عند مداخل القرى، لضمان مشاركة الناخبين وعدم السماح بتطيير الاستحقاق. في هذا السياق، يخوض الثنائي الشيعي، حزب الله وحركة أمل، الانتخابات البلدية في لبنان في لحظة سياسية دقيقة، يسعى خلالها لإثبات أن شعبيته لا تزال راسخة، رغم الانتقادات التي تطاول تحديداً حزب الله في ملف التعويضات، ولا سيما إذا ما قورن حجمها وسرعتها بما أعقب عدوان تموز 2006. يضاف إلى ذلك غياب أي مسار رسمي لإطلاق إعادة الإعمار ومساعدة المتضررين. ولهذا، جرى التوصل إلى تفاهمات بين الحزب والحركة للفوز بالتزكية في عشرات البلديات الجنوبية، بهدف تفادي المعارك المفتوحة وحسم النتائج مبكراً.
ويرى الناشط السياسي، أستاذ القانون العام في جامعة بيروت العربية، علي مراد، في حديث إلى "العربي الجديد"، أن "الواقع في القرى الأمامية الجنوبية يظهر حجم النكبة والخسائر والانهيار الكامل للبنى الاجتماعية والاقتصادية. الناس اليوم يعيشون حالة إحباط عميق، والانتخابات ليست أولوية بالنسبة إليهم". ويضيف مراد: "هذا الواقع يعزز قناعة عامة، حتى لدى خصوم حزب الله، بأن التفاهمات والتسويات المؤدية إلى تزكية اللوائح قد تكون السبيل الأفضل لتجنب معارك انتخابية لا يريدها الناس ولا يتحمسون لها. في المقابل، الهدف السياسي من هذا المسار تأكيد وحدة الطائفة وتماسك الولاء السياسي في هذه المرحلة الحساسة". مع ذلك، بحسب مراد، فإن صورة الانتخابات لن تكون موحدة في الجنوب. ففي العديد من القرى، حتى تلك التي تضم معارضين لحزب الله وأمل، مثل الحزب الشيوعي اللبناني، يسود خيار التوافق والابتعاد عن المواجهة المباشرة. أما في بلدات أخرى، حيث يتعذر الوصول إلى اتفاقات محلية، فمن المتوقع أن تندلع معارك انتخابية، وإن كانت ستجري في ظل أوضاع معيشية ومادية شديدة الصعوبة.
التغييريون وتيار المستقبل في بيروت
تحتضن بيروت نحو نصف مليون ناخب يتوزعون على 12 حياً (منطقة)، لانتخاب 24 عضواً في مجلسها البلديّ، وفق تركيبة طائفية دقيقة: ثمانية سنّة، ثلاثة شيعة، درزيّ واحد، أربعة من الروم الأرثوذكس، اثنان من الموارنة، اثنان من الأرمن الأرثوذكس، وواحد لكل من الروم الكاثوليك، والأرمن الكاثوليك، والأقليات، والإنجيليين. هذه التركيبة تجعل من انتخابات العاصمة تحدّياً حقيقياً أمام القوى السياسية الكبرى، كما أمام القوى التغييرية التي برزت في الانتخابات النيابية التي جرت في 2022. بموازاة المعارك الكبرى بين الأحزاب التقليدية ما عدا "تيار المستقبل"، تسعى القوى التغييرية المنبثقة من انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، لتثبيت موطئ قدم لها في المشهد الانتخابي، لتثبت أن المزاج الشعبي لا يزال قادراً، ولو جزئياً، على إنتاج بدائل خارج الاصطفافات التقليدية.
إبراهيم منيمنة: تحالفات الأحزاب التقليدية لم تنجح في إحداث أي تغيير فعلي
تغيير ضروري في الانتخابات البلدية في لبنان
في هذا السياق، يؤكد النائب إبراهيم منيمنة في حديث إلى "العربي الجديد" أن "الانتخابات البلدية في لبنان تمثل بالنسبة إلينا استحقاقاً أساسياً، تماماً كما كانت في عام 2016، خصوصاً أن المطالب اليومية للناس تبدأ من العمل البلدي". ويضيف أن تحالفات الأحزاب التقليدية، رغم تناقضاتها وضعف رؤيتها، لم تنجح في إحداث أي تغيير فعلي، ما دفع القوى التغييرية إلى العمل على تشكيل لائحة موحدة، بالتعاون مع عدد من النواب والقوى المدنية، تتبنى برنامجاً واضحاً وتضم شخصيات كفوءة، ستُعلن قريباً. منيمنة الذي يرى أن الحظوظ لا تزال قائمة أمام التغيير، يراهن على الوعي الشعبي الذي كشف في أكثر من محطة سابقة إخفاق المنظومة التقليدية في تلبية حاجات الناس. ويختم بالقول: "نراهن على وعي المواطنين ونأمل أن نكسب ثقتهم".
بين السخط واللامبالاة
يقول الأمين العام للجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات (لادي)، عمار عبود، في حديث لـ"العربي الجديد" إن الحماسة الشعبية للانتخابات البلدية تبدو خافتة، متوقعاً نسبة مشاركة متواضعة بفعل جملة من العوامل المتراكمة، أبرزها الوضع الأمني الهش، واهتزاز ثقة المواطنين بالعملية الانتخابية بعد سلسلة من التأجيلات التي طاولت الاستحقاق ثلاث مرات متتالية، فضلاً عن الأزمة الاقتصادية العميقة التي أنهكت معظم الشرائح الاجتماعية. مع العلم أنه في عام 2016 بلغت نسبة الاقتراع 20.1% مقارنة بـ 18.1% في انتخابات عام 2010 وبنسبة 24% في انتخابات عام 2004. ويرى عبود أن المال الانتخابي لا يزال يشكّل عاملاً سلبياً مؤثراً في سير العملية الانتخابية، رغم تراجع حجمه مقارنة بالمحطات السابقة. فضعف التمويل قلّص قدرة الماكينات الحزبية على استنهاض قواعدها الشعبية، ما انعكس فتوراً في التحضيرات والاستعدادات. وفي محاولة لتعويض هذا الفتور، يشير عبود إلى أن بعض القوى السياسية تلجأ إلى تكثيف الضغط باتجاه التزكية، عبر ترويج شائعات تفيد بأن البلديات التي تفوز بالتزكية ستحظى بأولوية في الحصول على مساعدات مالية، في محاولة لاستمالة الأهالي وثنيهم عن خوض معارك انتخابية.
