في مجتمع يواجه أزمات سياسية واقتصادية متراكمة، تَحَوَّلَ المزاج العام خلال سنوات إلى حالة من التطرّف والانفعال المُفرط تجاه الأحداث، حيث يتأرجح العراقيون بين الإحباط العميق والانبهار اللحظي. وفي ظلّ هذا الواقع، أصبح البحث عن قصص النجاح حاجة جماعية تمنح إحساسًا مؤقّتًا بالانتصار في مواجهة الإحباط المستمر.
خلال الفترة الأخيرة، برزت عدّة قصص عراقية، مثل فوز اللاعبة نجلاء عماد بالميدالية الذهبية في دورة الألعاب البارالمبية 2024، رغم فقدانها ساقها ويدها في تفجير إرهابي، أو الطبيب محمد طاهر الذي جذب الانتباه إلى دوره الإنساني في قطاع غزة. لم يكن التفاعل الشعبي معها مجرّد اهتمام عابر، بل تحوَّل إلى حالة من الانبهار الجماعي، وكأنّ العراقيين وجدوا في هذه الشخصيات نافذة للهروب من واقعهم المُثقل بالأزمات.
لكن ما يثير التساؤل، هو أنّ هذا الاحتفاء لا يبدأ من لحظة البناء، بل ينفجر بعد الإنجاز، على سبيل المثال، لم تحظَ نجلاء عماد باهتمام واسع قبل تحقيقها للميدالية، ولم يتحدّث أحد عن التحديات التي واجهها محمد طاهر قبل أن يُسلّط عليه الضوء. هذا النمط يعكس أزمة في كيفيّة تعامل المجتمع مع النجاح: لماذا لا يظهر الاهتمام إلا بعد أن يتحقّق النجاح؟ ولماذا يتم استنزاف هذه القصص عاطفيًّا ثم نسيانها سريعًا؟
الاحتفاء المتطرّف بقصص النجاح يعكس ظاهرة اجتماعية أوسع؛ العراقيون يعيشون في بلد تتراكم فيه الإخفاقات المؤسساتية، ما يجعل أيّ نجاحٍ فردي يبدو وكأنه إنجاز استثنائي وخارق في وسط الإحساس الجماعي بالعجز عن تحقيق تغييرات حقيقية على المستوى الوطني.
أصبح البحث عن قصص النجاح حاجة جماعية تمنح إحساسًا مؤقّتًا بالانتصار في مواجهة الإحباط المستمر
يفسّر مدونون على مواقع التواصل الاجتماعي أنّ التعلّق بهذه النجاحات يمنح تعويضًا نفسيًّا عن الإحباطات اليومية الناتجة عن سوء الإدارة والمشكلات المُستدامة، مثل انتشار السلاح المنفلت، الفساد، المُحاصصة، سوء الخدمات. بينما يشير آخرون إلى أنّ في الدول التي تمتلك بنية تحتية قويّة للنجاح، يُنظر إلى التميّز بوصفه جزءًا طبيعيًّا من المسار المهني والتعليمي، أما في العراق، فالنجاح يتحقّق رغم بيئة معادية له، مما يجعله حدثًا استثنائيًّا.
يرى الناشط السياسي علي القيسي من بغداد أنّ الاحتفاء لا يأتي من إيمان حقيقي بضرورة صناعة بيئة داعمة، بل هو مجرّد رد فعل عاطفي على حدث انتهى، ويقول: "المجتمع لا يهتم بكيفية بناء النجاح، بل فقط بالنتيجة النهائية. نجلاء لم تكن شخصية معروفة قبل أن تفوز، ومحمد طاهر لم يكن حديث الإعلام قبل أن يصبح رمزيًّا. هذا يؤكد أننا لا نصنع الناجحين، بل ننتظر ظهورهم لنصفق لهم."
أما الباحث في الشؤون الاجتماعية من ديالى، باهر الهاشمي، فيرى أنّ المجتمع العراقي يتعامل مع النجاح بمنطق "التقديس المؤقت"، حيث يتم رفع الأشخاص إلى مرتبة الأبطال لفترة وجيزة، ثم استبدالهم بأسماء جديدة من دون أن يترسّخ مفهوم النجاح المستدام. يقول: "لدينا ذاكرة قصيرة جدًّا عندما يتعلّق الأمر بالنجاح. يتم تسليط الضوء على الناجحين بشكل مفاجئ، ثم يتم استنزاف قصتهم بالكامل حتى يفقدها الجمهور اهتمامه. هذا يعكس أزمة أعمق تتعلّق بعدم وجود ثقافة تقدّر الجهود المستمرة."
التطرّف في الاحتفاء بالنجاح في العراق ليس مجرّد ميل اجتماعي عابر، بل هو انعكاس لأزمة عميقة تتعلّق بغياب بيئة النجاح نفسها
حين يحقّق شخص ما إنجازًا كبيرًا، تتحوّل قصته بسرعة إلى فرصة للاستثمار الإعلامي والسياسي. فجأة، تبدأ الشخصيات السياسية في دعوته إلى الاحتفالات، وتُمنح له الأوسمة، ويُستَقبَل في المكاتب الحكومية، لكن من دون أيّ التزام حقيقي بدعمه أو توفير بيئة مناسبة لتكرار نجاحه.
في هذا السياق، ترى زهراء العيداني، الناشطة السياسية من البصرة، أنّ هذا الاحتفاء يعكس ازدواجية في تعامل الدولة مع الموهوبين، وتقول: "لا أحد يهتم بالمواهب قبل نجاحها، لكن بمجرّد أن يحقق أحدهم إنجازًا، تبدأ الجهات السياسية والإعلامية في استغلاله. يتم الاحتفاء به لفترة قصيرة، ثم يُترك ليواجه نفس المصاعب التي واجهها قبل النجاح".
النجاح في العراق ليس نتاج منظومة متكاملة، بل هو غالبًا مجهود فردي بحت. فلا توجد سياسات واضحة لدعم الشباب الموهوبين، ولا خطط حكومية جادة لاحتضان المبدعين. وفقًا لبيانات منشورة في وكالات دولية مثل "يونيسف"، يعاني العراق نقصًا حادًّا في البرامج التي تدعم ريادة الأعمال، وتطوير المهارات، وتوفير بيئة مناسبة للمجالات المختلفة ومنها البحث العلمي والابتكار الرياضي.
وبحسب تقرير البنك الدولي لعام 2023 حول التنمية الاقتصادية، يعاني العراق ضعفًا حادًّا في الاستثمار في التعليم والبحث العلمي، حيث لا يتجاوز إنفاقه على البحث والتطوير 0.2% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بنسبة 2.4% في الدول المتقدّمة.
التصفيق للإنجازات الفردية ليس دليلًا على تقدير النجاح، بل يعكس ندرة الفرص وضعف المنظومة الداعمة
في هذا الصدد، المحامية زينة المزوري من دهوك، تؤكد أنّ غياب البيئة الداعمة يجعل النجاح عملية شاقة محفوفة بالعقبات، وتوضح: "لا توجد تشريعات واضحة تحمي حقوق الناجحين أو توفر لهم مسارات تطوير مستدامة. في دول أخرى، النجاح ليس مجرّد جهد فردي، بل نتيجة لعمل مؤسساتي متكامل. أما في العراق، فالنجاح يبقى رهانًا على إرادة الشخص نفسه، وليس على نظام داعم له."
في الدول التي تنتج أعدادًا كبيرة من الناجحين، هناك أنظمة تدعمهم عبر توفير الموارد، توجيه الطاقات، خلق فرص متساوية. أما في العراق، فلا توجد سياسات تعليمية تدعم الابتكار، ولا منظومة رياضية متكاملة، ولا برامج حقيقية لرعاية المواهب.
المفارقة أنّ العراقيين لا يحتفون بالنجاح فقط، بل يتعاملون معه وكأنه انتصار شخصي لهم، ما يعكس مدى حاجتهم إلى رموز تُعيد إليهم الإحساس بالقدرة على الإنجاز. لكن هذا التفاعل العاطفي ينتهي سريعًا، لأنّ المجتمع لا يُتابع دعم هؤلاء الناجحين، بل يتركهم لمواجهة العقبات نفسها التي عانَوْها قبل تحقيق الإنجاز.
ختامًا، التطرّف في الاحتفاء بالنجاح في العراق ليس مجرّد ميل اجتماعي عابر، بل هو انعكاس لأزمة عميقة تتعلّق بغياب بيئة النجاح نفسها. فالتصفيق للإنجازات الفردية ليس دليلًا على تقدير النجاح، بل يعكس ندرة الفرص وضعف المنظومة الداعمة. وهكذا يبقى السؤال مفتوحًا: هل نحن مجتمع يحتفي بالنجاح أم يعرقله؟ وهل يكفي التصفيق لإنجازات فردية، أم أنّ الحل يكمن في بناء منظومة تدعم النجاح للجميع؟