
بالنسبة لعشاق الفنّ الكلاسيكي والانطباعي والتيارات التشكيلية المعروفة، فإن تقييم ما يُحدث ضجة في المزادات الفنيّة لا يزيد عن أنّ الفن قد أسرف في التطرّف والشطط إلى حدود باتت عصية على الاستقبال والتذوّق، وإن باتت مألوفة إلى حد ما من كثرة لهاث الإعلام خلفها. مع أنها لم ترق للأكثرية من المقبلين على الفنّ، وانتقادهم ما يتجاوز الحدود التقليدية في التعبير، خاصة من خلال استخدام أساليب وموضوعات جريئة وصادمة، يهدف حسب ما يروج له إلى توسيع آفاق الفهم الجمالي، ويكشف عن توجيه نقدٍ اجتماعيٍّ قد يكون فجاً، أو سياسيٍ حاد، ليس دبلوماسياً بأي حال من الأحوال.
هذا التطرف غير عائد لهذا القرن، بل يستمد إقدامه من مراحل مختلفة من فنون القرن الماضي، أثار الجدل حينها لعدم اتخاذ الجمالية التقليدية مرجعية له، وإنّما عبر كسر القواعد المتعارف عليها، بموضوعات تتوسّل تقنيات وأساليب غير مألوفة من خلال سعيها إلى مفاهيم جديدة تتناول الجنس والحرية والدين والجمال، ولا تستثني البشاعة.
أكثر ما يدفع الفنانين إلى استخدام التطرف وسيلة للفت الأنظار وتسليط الضوء على المعاناة الإنسانية، كان طرح الحرب والقمع السياسي والظلم الاجتماعي موضوعاتٍ تثير صدمة بصرية أو فكرية، تضمن تحقيق تأثير جماهيري يتجاوز المفهوم الجمالي البحت ليصبح وسيلة للتعبير عن قضايا حسّاسة، على أن يجعل هذه الأعمال محل جدل كبير في الأوساط الفنية والعامة على حد سواء.
أسرف الفن في التطرّف إلى حدود باتت عصية على الاستقبال
يمكن حصر أشكال التطرّف بالتجريد والتشويه، فالفنانون أمثال بيكاسو وفرانسيس بيكون قدما نماذج للتطرف من خلال التلاعب بالأشكال، ما عكس قلقاً وجودياً وإنسانياً. فالتشويه لدى بيكون محاولة لإعادة بناء العالم وفق رؤية ذاتية، بينما في لوحات بيكاسو التكعيبية تبدو الأشكال البشرية مفكّكة ومشوهة.
اقتحم الفن المتطرف غالباً مناطق محظورة دينياً وسياسياً، ما أدى إلى استخدام مواد غير تقليدية مثيرة للجدل في أعمالهم، مثل الدم والجثث المحنطة والخردة والنفايات، معتمداً على صدمة المشاهد وسيلة لإثارة التساؤلات حول الحضارة والحرب والحياة والموت. ما جعل التطرّف الفني يلقى دائماً ردات فعل متباينة بين الرفض التام والتقدير الفني.
بعض الأعمال تعرضت للرقابة والمنع، فيما اعتُبر بعضها نقطة تحول في تاريخ الفن. على سبيل المثال، لوحة "غيرنيكا" لبيكاسو، وغيرها لفنانين أمثال بيكابيا وبراك ودوشامب، مع أن لوحات فرانسيس بيكون لاقت انتقادات حادة، وتعرّضت لوحات الفن المنحط الألمانية في العهد النازي إلى المنع والحرق، لكنها مع مرور الزمن أصبحت من أيقونات الفن الحديث.
بات التطرف يطرح تساؤلات أخلاقية حول الحدود بين الكشف والإساءة. إلى أي مدى يمكن للفنان أن يستخدم الصدمة وسيلة للتعبير؟ ألا يصبح الفن وسيلة مشروعة للإساءة إلى المعتقدات والقيم المجتمعية؟ هذا إن لم يصبح مادة للاستهتار.
في حادثة شهيرة، عُرضت للبيع مؤخراً لوحة في المزاد، حُدد مبلغ ثمانمئة ألف دولار سعراً أولياً. وصفت اللوحة بأنها ذات أهمية فنية وثقافية، لم تكن سوى موزة واحدة مثبتة على جدار بشريط لاصق، صممها الإيطالي موريزيو كاتيلان. مع البدء بالمزاد، تسارعت الأسعار المقدمة من قبل وكلاء المزايدين حتى عرض أحدهم مبلغ ستة ملايين ومئتين وأربعة وعشرين ألف دولار، فرست عليه.
لا تشكل هذه الموزة شيئاً استثنائياً في عالم الفن والمزادات العالمية، هناك أمثلة كثيرة تنافسها في التفاهة، كبيع لوحات بعشرات ملايين الدولارات لا تزيد عن فوضى خطوط لا تزيد عن خربشات.
عندما يصبح التطرف للتطرف هدفاً للفنانين، يتجاوز الفن حدود السخافة، بغرض إحداث صدمة لن تكون إلا تنافساً على الهراء.
* روائي من سورية

Related News

