الفتوى الدينية في اليمن... سلاحٌ لشيطنة الخصوم وتأجيج الأزمات
Arab
2 hours ago
share
لا تكتفي التيارات السياسية في اليمن باللجوء إلى القوة المسلحة لحسم صراعاتها، بل تعمل أيضاً على توظيف الفتوى الدينية  خدمةً لأجنداتها السياسية، نتيجة إدراكها التأثير الكبير للخطاب الديني في مجتمع تقليدي ومحافظ، لا يزال الدين يمثل أحد أهم أنساق هويته المجتمعية. وقد عادت الفتوى الدينية في اليمن إلى الواجهة مجدداً، بالتزامن مع تصاعد الصراع السياسي والعسكري بين المجلس الانتقالي الجنوبي؛ المطالب بانفصال جنوب اليمن، والحكومة المعترف بها دولياً. وبلغ هذا التصعيد ذروته مع اجتياح قوات الانتقالي محافظتي حضرموت والمهرة، وتصاعد الأصوات المطالبة بإعلان الاستقلال وإقامة ما يُسمّى بـ"دولة الجنوب العربي". جدل الفتوى الدينية في اليمن في هذا السياق، صدر في الآونة الأخيرة العديد من الفتاوى الدينية التي أطلقها شيوخ سلفيون موالون للمجلس الانتقالي الجنوبي، أبرزهم الشيخ عبد الله شعيفان البكري، الذي أثار جدلاً واسعاً بعد نشره مقاطع فيديو على منصة إكس، تتضمن آراءً تكفيرية. ومن أبرز ما نشر مقطع كفّر فيه أبناء محافظة حضرموت الذين يقفون إلى جانب عمرو بن حبريش؛ رئيس حلف قبائل حضرموت المطالب بالحكم الذاتي للمحافظة، في مواجهة "القوات الجنوبية" التابعة للمجلس الانتقالي. وقال البكري إن من يقف مع بن حبريش ضد القوات الجنوبية يُعد "خارجياً"، معتبراً أن من يُقتل في هذه المواجهات يكون "بحكم الخوارج"، وأن قتله يُعدّ "ميتة جاهلية". كذلك أعاد ناشطون تداول مقطع يتضمّن فتوى لشيخ سلفي آخر يُدعى خالد الأنصاري، يعود تاريخ نشره على قناته في "يوتيوب" إلى سبتمبر/ أيلول 2020، وكان قد ردّ فيه على سؤال بشأن استهداف الجنود اليمنيين المنتمين إلى المحافظات الشمالية. وقال الأنصاري: "أنا لم أُفتِ باستهداف الشماليين كلّهم، بل أفتيت باستهداف الجنود الشماليين"، مضيفاً أن "سبب الفتوى أمران، منهما أن الجنود يمثّلون الاحتلال، وما دام هناك جنود شماليون فهذا يعني أن الاحتلال لا يزال قائماً، وإذا أردنا التخلص من الاحتلال فمن الضروري التخلّص من الجنود، ولهذا أقول للجنود الشماليين: اخرجوا وإلا استهدفناكم". أصدر الانتقالي الجنوبي قراراً بتشكيل لجنة تحضيرية لهيئة الإفتاء الجنوبية وسط هذه الأجواء، أصدر رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، عيدروس الزبيدي، في 13 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، قراراً بشأن "تشكيل اللجنة التحضيرية لهيئة الإفتاء الجنوبية". وعقب ذلك، حذّر مصدر مسؤول في مكتب رئاسة الجمهورية اليمنية في تصريح نشرته وكالة الأنباء اليمنية "سبأ" بنسختها التي تديرها الشرعية، من تداعيات القرار، الذي يقضي بتشكيل لجنة تحضيرية لهيئة إفتاء وربطها بوزارة الأوقاف والإرشاد، معتبراً الإجراء أحادياً ويتنافى مع الدستور والقانون والمرجعيات الحاكمة للمرحلة الانتقالية، وفي مقدمتها إعلان نقل السلطة. وأوضح المصدر أن "صلاحيات الوزارة تنفيذية وإرشادية ولا تمتد إلى إنشاء مرجعيات إفتائية ذات طابع سيادي"، معتبراً أن القرار "يمسّ وحدة المرجعية الدينية ويؤدي إلى تشطيرها، بما يفتح الباب أمام صراع ديني لا مبرر له ولا يخدم السلم المجتمعي". وخلال الفترة الممتدة منذ قيام الجمهورية اليمنية وحتى اليوم، برزت محطات مفصلية عدة تصدّر فيها الخطاب الديني الأصوات المؤججة للحرب في البلاد، ولعل أبرز هذه المحطات حرب صيف 1994 (إعادة فرض الوحدة بالقوة)، التي انتشرت خلالها فتاوى أطلقها شيوخ دين لتكفير الجنوبيين والحزب الاشتراكي اليمني، حيث جرى توظيف هذه الفتاوى لتحشيد المقاتلين واجتياح المحافظات الجنوبية. وخلال الحرب الحالية التي تشهدها البلاد منذ عام 2015، برز الخطاب الديني كأحد الأسلحة التي استخدمها الحوثيون إلى جانب السلاح العسكري للسيطرة على المدن اليمنية، من خلال خطاب تكفيري تبناه شيوخ دين تابعون للجماعة ذات التوجه الزيدي، ويصف خصومهم بأنهم "دواعش وتكفيريون ومنافقون ومرتزقة". وقد أسهم ذلك في نشوء خطاب تكفيري مضاد يصف الحوثيين بأنهم "روافض ومجوس"، ليغدو الخطاب الديني إحدى الأدوات المُتحكمة في مسارات الصراع السياسي والعسكري وتعقيداته. عيبان السامعي: من أسباب توظيف الفتوى الدينية، تآكل سيادة القانون وانهيار مؤسسات الدولة ويرى عضو اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني، عيبان السامعي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن توظيف الفتوى الدينية في اليمن في الصراع السياسي اليمني يعود إلى جملة من الأسباب المتداخلة، في مقدمتها الأسباب التاريخية، إذ يمتلك اليمن تاريخاً طويلاً مع استخدام الفتوى أداةً في النزاعات السياسية، سواء في التاريخ الوسيط أو الحديث والمعاصر. ويشير إلى أن حرب صيف 1994 تمثل النموذج الأبرز، حين صدرت فتاوى دينية تبيح قتل أبناء الجنوب وأعضاء الحزب الاشتراكي اليمني، بذريعة أنهم "شيوعيون ملحدون". ويضيف السامعي أن هناك أسباباً سياسيةً مرتبطةً بالحرب المستمرة منذ عام 2015، التي أسهمت في تعميق الاستقطاب الطائفي والمناطقي والسياسي، حيث لجأت أطراف الصراع المختلفة إلى توظيف الخطاب الديني لتبرير ممارساتها وإقصاء خصومها وتجريدهم من الشرعية. كذلك يشير إلى أسباب مؤسسية تتمثل في تآكل سيادة القانون وانهيار مؤسسات الدولة، ولا سيما القضائية والضبطية، ما وفّر بيئة خصبة لانتشار هذا الخطاب في ظلّ غياب المحاسبة ووسائل الردع القانونية. ويتابع عضو اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني أن للأسباب الثقافية والاجتماعية دوراً أساسياً أيضاً، نظراً لما يحظى به الدين من قداسة وسلطة رمزية وتأثير واسع في الوعي الجمعي، الأمر الذي يدفع القوى المتصارعة ورجال الدين إلى توظيف الفتوى الدينية في اليمن وسيلةً للتحشيد والسيطرة على المجتمع. وحول آثار هذه الفتاوى، يعتبر السامعي أنها تمثل تهديداً خطيراً للمجال السياسي والحريات العامة، إذ إن نقل الصراع من الحيّز السياسي إلى الحيز الديني يحوّل الخلاف في الرأي إلى مسألة كفر أو ردّة، ويجعل الخصم هدفاً مباحاً، ما يعقّد المشهد السياسي ويقوّض فرص الوصول إلى حلول سلمية، ويُسهم في إطالة أمد الحرب ورفع كلفتها الوطنية، فضلاً عن تقويض ما تبقّى من مؤسسات الدولة عبر إحلال الفتوى الدينية في اليمن محل القضاء والقانون. أما على الصعيد المجتمعي، فيؤكد السامعي أن توظيف الفتوى الدينية يقوّض مبدأ المواطنة المتساوية، ويعيد تعريف الأفراد وفق انتماءاتهم المذهبية أو المناطقية أو القبلية، بدلاً من انتمائهم الوطني، ما يؤدي إلى تعميق الانقسامات الاجتماعية وتمزيق الهوية الوطنية الجامعة، وتآكل قيم الثقة والتعايش، وتحويل العنف والكراهية من سلوكيات مرفوضة إلى ممارسات مقبولة اجتماعياً، وصولاً إلى خلق بيئة صراعية شبيهة بـ"حرب الكل ضد الكل". دور رجال الدين من جهته، يقول الكاتب سليمان عبد السلام، في حديثه لـ"العربي الجديد"، إن توظيف الخطاب والفتاوى الدينية في الصراعات السياسية في اليمن، برز بشكل كبير منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، ويعود ذلك إلى الثقل المجتمعي الذي يحظى به رجال الدين، وهو ثقل ناتجٌ عن ضعف المؤسسات المدنية للدولة، وضعف الخطاب السياسي والوطني. وقد جرى توظيف الخطاب الديني، وفق شرحه، من قبل سياسيين يتصدرون السلطة لدعم أجنداتهم السياسية المتمثلة في الحفاظ على السلطة والقضاء على الخصوم السياسيين، نتيجة إدراكهم التأثير السريع والفعّال للخطاب الديني في مجتمع عقائدي وتقليدي كالمجتمع اليمني، وهو ما برز بوضوح منذ حرب صيف 1994، وتكرّس بصورة أشد خلال سنوات الحرب منذ 2015. وعلى مستوى المسار السياسي، يرى الكاتب أن هذه الفتاوى شكّلت حجر عثرة أمام السلام والحوار، وعطّلت فرص التسويات السياسية، وأطالت أمد الحروب والصراعات، ووسّعت دائرة العنف والقتل، وأسهمت في تزايد حالة التشظي والانقسام والفوضى، وهو ما انعكس سلباً على مسار بناء الدولة الذي شهد تراجعاً كبيراً. ويعزو ذلك إلى تحويل جوهر الصراع من سياسي إلى ديني، لأن المتحاربين على أسس دينية يؤمنون بألّا حلّ للصراع إلا بالقضاء التام على الطرف الآخر. وعلى الصعيد المجتمعي، يشدد عبد السلام على أن توظيف الفتوى الدينية في اليمن أسهم في تفتيت وحدة النسيج الاجتماعي وقِيَم التعايش والتكافل، وأفرز الانقسامات المناطقية والمذهبية والتفاوت الطبقي، وغذّى الخطاب المناطقي، وساهم في تفشي ثقافة الإقصاء والكراهية. ويحذر بناء على ذلك من أن ترسّخ هذه النتائج داخل نسيج المجتمع الواحد يجعل التخلص منها ومعالجتها أكثر صعوبة.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows