Arab
نفذت الولايات المتحدة، أول من أمس الخميس، أولى ضرباتها على نيجيريا، الدولة الأفريقية الواقعة غرب القارة، في عهد الرئيس دونالد ترامب، الذي ادعى أن هذه الضربات هي لحماية المسيحيين من خطر إرهاب تنظيم داعش. وبينما تواجه نيجيريا، الأكبر في عدد السكّان بالقارة، مع أكثر من 230 مليون نسمة، تحديات تزداد خطورة، خصوصاً أنها تبدو وكأنها تعيش على صفيح ساخن مع تنامي وتشعب خطر الإرهاب فيها، والصراعات المسلّحة مختلفة المشارب، بالإضافة إلى ما يحيطها من توترات خصوصاً من جهة الغرب، في إشارة إلى دول الانقلابات المتتالية التي أصبحت تحاصرها، فإن سردية ترامب بشأن استهداف المسيحيين في نيجيريا، تجمع الآراء على عدم صوابيتها، وترفضها الحكومة النيجيرية التي أعطت مرغمة الضوء الأخضر للضربات رضوخاً لمشيئة القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا "أفريكوم". لكن هذه السردية تلقى صدى لدى اليمين الأميركي وجماعة الإنجيليين في الداخل الأميركي، اللذين يحفزانها، فيما عيْن ترامب وعدد من صقور الجمهوريين على أبعد من ذلك، إذ يتعلّق الأمر خصوصاً بالمصالح النفطية والتجارية والاقتصادية، فضلاً عن استعراض النفوذ في نيجيريا.
ضربات يوم عيد الميلاد في نيجيريا
وترتبط الضربات الأميركية التي أعلن ترامب أول من أمس عن تنفيذها في نيجيريا يوم عيد الميلاد موجها معايدة للكل، بما في ذلك "الإرهابيون القتلى"، بعودته إلى البيت الأبيض لولاية ثانية وشراهته للتدخلات العسكرية حول العالم، في دول تتمتع بغنى نفطي أو بثروات طبيعية، وسط التنافس الأميركي المحتدم مع الصين، بالإضافة إلى خلفية ترامب رجل أعمال، محاطاً بفريق من رجال الأعمال الموزعين على مهمات سياسية اقتصادية حول العالم.
مهّد ترامب للغارات باعتبار أن المسيحيين في نيجيريا يتعرضون لإبادة جماعية وتصنيف نيجيريا دولة مثيرة للقلق ومنتهكة للحريات
وكان الرئيس الأميركي مهّد لضربات الخميس، باعتباره في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أن المسيحيين في نيجيريا يتعرضون لـ"إبادة جماعية"، فيما وضعت الخارجية النيجيرية الغارات في إطار التعاون الأمني والاستخباري المنظم بين نيجيريا والولايات المتحدة. وتلا حديث ترامب عن "إبادة جماعية" إصداره قراراً في بداية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، لقي دعماً واسعاً من أعضاء بارزين في حزبه، صنّف فيه نيجيريا ضمن قائمة الدول المثيرة للقلق في مجال الحريات الدينية، قائلاً إن المسيحيين في هذا البلد يواجهون تهديداً وجودياً، كما حذّر أبوجا من قطع المساعدات عنها.
وفي 3 نوفمبر، أمر الجيش الأميركي بأن يكون جاهزاً للتحرك في نيجيريا، لمواجهة الجماعات الجهادية المتطرفة، متهماً الحكومة النيجيرية بالفشل في حماية المسيحيين. وجاء ذلك متزامناً مع دفع السيناتور تيد كروز، حليف ترامب، الكونغرس، إلى تصنيف نيجيريا دولة منتهكة للحرية الدينية. وحينها ردّت الحكومة النيجيرية، بأن نفت بشكل قاطع ادعاءات واشنطن المتعلقة بوجود اضطهاد ممنهج ضد المسيحيين. كما اعتبر المتحدث باسم الرئيس النيجيري بولا تينوبو، دانيال بوالا، أن التهديد العسكري الصادر عن ترامب، يستند إلى "تقارير مضللة"، مضيفاً أنه "يندرج ضمن أسلوب ترامب القائم على استخدام القوة لفرض الجلوس إلى طاولة حوار وبدء النقاش".
لكن ما حدث على الأرض، منذ ذلك الحين، أعطى انطباعاً بتصاعد حوادث العنف المسلّح في نيجيريا، على اختلاف أنواعها، بين تلك التي ينفذها "داعش" أو جماعة "بوكو حرام" المتطرفة، أو حوادث الخطف التي تقوم بها العصابات المسلّحة مقابل الفدية، أو الاقتتالات التي تحصل بين المزارعين (المسيحيين) والرعاة (المسلمين)، للسيطرة على الأرض، وهذه الصراعات لا تحصل غالباً على خلفية دينية، بل إثنية – اجتماعية - اقتصادية. أما خطف الكهنة ورجال الدين المسيحيين، والذي أصبحت حوادثه تكثر في الآونة الأخيرة، فإن هدفه الأول ليس دينياً، بل مالي، حيث يعتقد غالباً الخاطفون أن المنظمات والمؤسسات الدينية التي يتبع الكهنة لها، سوف تجنّد كل قدراتها لجمع المال من أجل تحريرهم.
وللمفارقة، فإن آخر حادثتين قبل ضربات ترامب، استهدفت إحداهما جامعاً في ولاية بورنو، حيث تنشط "بوكو حرام"، فيما استهدفت الحادثة مركبة في ولاية بلاتو وسط البلاد كانت تقلّ أشخاصاً كانوا متوجهين لحضور مناسبة دينية إسلامية، حيث قام المسلّحون بخطف 28 شخصاً بينهم نساء وأطفال.
رغم ذلك، أعلن ترامب أن ضربات الخميس هدفها منع "داعش" من استهداف المسيحيين، مؤكداً أن الولايات المتحدة ستشن مزيداً من الضربات إن لم يتوقف التنظيم عن "قتل المسيحيين" في نيجيريا. وكتب ترامب على منصته تروث سوشال: "ميلاداً مجيداً للكل، بما في ذلك الإرهابيون القتلى، والذين سيكون عددهم أكبر إن تواصل قتل المسيحيين". وقال ترامب: "الليلة، وبتوجيهي بصفتي القائد الأعلى، شنّت الولايات المتحدة ضربة قوية ومميتة ضد إرهابيي داعش في شمال غرب نيجيريا، الذين كانوا يستهدفون ويقتلون بوحشية، وبشكل أساسي، مسيحيين أبرياء، بمستويات لم تُشهد منذ سنوات طويلة، بل وحتى قرون". وأضاف: "سبق أن حذرت هؤلاء الإرهابيين من أنهم سيدفعون ثمناً باهظاً إن لم يتوقفوا عن قتل المسيحيين، وقد دفعوا ثمناً الليلة"، لافتاً إلى أن "وزارة الحرب نفذت العديد من الضربات الدقيقة" يوم عيد الميلاد.
ونشرت وزارة الحرب الأميركية مقطعاً مصوّراً أظهر على ما يبدو إطلاق صاروخ من بارجة حربية ترفع العلم الأميركي. وأعلنت "أفريكوم" على "إكس"، أيضاً، شنّها غارة "بناء على طلب السلطات النيجيرية في ولاية سوكوتو أسفرت عن مقتل عدد من إرهابيي داعش". من جهتها، أكدت الخارجية النيجيرية تنفيذ الولايات المتحدة ضربات جوية دقيقة ضد "أهداف إرهابية"، مضيفة في بيان أن السلطات النيجيرية "تواصل انخراطها في تعاون أمني منظم مع الشركاء الدوليين، بما في ذلك الولايات المتحدة، لمواجهة التهديد المستمر للإرهاب والتطرف العنيف". وكانت وكالة رويترز، كشفت في 23 ديسمبر/كانون الأول الحالي، أنه استناداً إلى بيانات تتبع الرحلات الجوية ومصادر أميركية، فإن الولايات المتحدة تنفذ جولات استطلاع لجمع معلومات استخبارية فوق أجزاء واسعة من نيجيريا منذ أواخر نوفمبر الماضي.
وتنقسم نيجيريا، وهي دولة عضو في مجموعة "أوبك" النفطية، بشكل متساو تقريباً بين الجنوب ذي الغالبية المسيحية (45%) والشمال ذي الغالبية المسلمة (53%)، وكانت مسرحاً لنزاعات عدة أودت بحياة مسيحيين ومسلمين على حد سواء. وبينما ترفض الحكومة النيجيرية ومحلّلون مستقلون الحديث عن وجود اضطهاد ديني في نيجيريا، يواصل اليمين الأميركي والأوروبي والانفصاليون النيجيريون الذين لا يزالون يتمتعون بنفوذ في واشنطن، رفع هذا العنوان، وهو عنوان شبيه بما يدعي ترامب حصوله في دولة جنوب أفريقيا بحق "المواطنين البيض"، من "إبادة جماعية" أيضاً، وقد سهّلت لهم إدارته الهجرة إلى الولايات المتحدة بناء على هذا الادعاء.
"داعش" والجماعات المنافسة
وتمثّل الضربات الأميركية، الخميس، على نيجيريا، عودة قوية للتدخل العسكري في أفريقيا، بعد تراجع بدأ في ولاية ترامب الأولى، لكن المعلومات ظلّت شحيحة يوم أمس، بشأن طبيعة الأهداف التي ضُربت. وينشط في نيجيريا فرعان لـ"داعش"، الأول نتيجة انشقاق في "بوكو حرام"، والثاني ضمن ما يُعرف بتنظيم "داعش" – ولاية الساحل، المعروف محلياً بـ"لاكوراوا"، وينشط خصوصاً في الشمال الغربي من البلاد. وقال محلّلون، وفق وكالة أسوشييتد برس، أمس، إن "لاكوراوا" قد يكون على الأرجح المستهدف، بعدما أصبحت هجماته أكثر دموية في ولايات حدودية مثل سوكوتو وكيبي، خلال العام الماضي، حيث تطاول المجتمعات الريفية والبعيدة وقوات الأمن.
اتهم ماركو روبيو جماعة الفولاني العرقية، بالقتل الجماعي للمسيحيين، وبأنها مليشيات راديكالية إسلامية
وكان الجيش في نيجيريا قد أشار في السابق، إلى أن وجود "داعش" في البلاد، تعود جذوره إلى دولة النيجر المجاورة، وقد أخذت عملياته تزداد في نيجيريا بعد الانقلاب العسكري في النيجر، الذي وقع في عام 2023، وأطاح سلطة الرئيس محمد بازوم. وكان الانقلاب قد أدّى إلى توتير العلاقات بين البلدين، وتراجع مستوى التنسيق الأمني والعسكري بينهما، خصوصاً على طول الحدود الوعرة. لكن وفق مصادر "أسوشييتد برس"، فإن "لاكوراوا" ينشط في البلاد منذ عام 2017 على الأقل، عندما طلبت منه المجتمعات المحلية في سوكوتو، حمايتها من العصابات الإجرامية.
وبحسب جايمس بارنيت، وهو باحث أفريقي في معهد هادسون الأميركي، الذي تحدث لوكالة "أسوشييتد برس" أمس، فقد "استغل التنظيم الدعوة، وفرض تفسيراً صارماً ومتطرفاً للشريعة الإسلامية ما أثار سخط السكّان". من جهته، لفت مالك سامويل، الباحث الأمني النيجيري الذي يعمل في منظمة "غود غافرنانس أفريكا (Good Governance Africa)، للوكالة نفسها إلى أن "المجتمع المحلي في المنطقة بدأ اليوم يقول صراحة إن لاكوراوا أكثر قمعاً وأخطر من العصابات المحلية الأخرى"، موضحاً أن "لاكوراوا يسيطر اليوم على أراض شاسعة في سوكوتو وكيبي، وأصبح يعرف بعمليات القتل والخطف والاغتصاب والسطو المسلّح".
أما منظمة "مشروع بيانات مواقع وأحداث الصراعات المسلّحة"، ومقرها الولايات المتحدة، فلفتت وفق "أسوشييتد برس"، إلى أن الكثير من أعمال العنف التي تنسب لـ"لاكوراوا"، نفذها في الحقيقة مسلّحون من "داعش" بمنطقة الساحل، ولكن من خارج البلاد، حيث قدموا من النيجر، وهم يتوسعون إلى بنين أيضاً". وفي سوكوتو، شنّت السلطات حملات عسكرية عدة خلال الأشهر الأخيرة، وهي أطلقت أيضاً حملة تجنيد أمنية وعسكرية، لكن المسلّحين الذين يعملون على شكل مجموعات صغيرة، يعرفون ببراعتهم بعمليات الفرار على دراجات نارية، والاختباء في الولايات المجاورة لحين عودة الهدوء.
أما "بوكو حرام" (جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد) فهي أيضاً في صعود في نيجيريا، بعد فترة خمول إثر مقتل زعيمها أبو بكر شيخاو في عام 2021، وصعود تنظيم "داعش" غرب أفريقيا، رغم أن حوادث الخطف التي تحصل، والتي عادت وتيرتها لترتفع مجدداً، خصوصاً تلك التي تطاول طلّاب المدارس، لا يمكن نسبها جميعها إليها. وعادت الجماعة لتنفذ منذ بداية العام الحالي، هجمات عدة بمنطقة بحيرة تشاد، مستهدفة خصوصاً الكاميرون ونيجيريا. وبينما تنشط "بوكو حرام" خصوصاً في ولاية بورنو الواقعة في الشمال الشرقي، فإنها أيضاً بدأت تتمدد في منطقة الوسط الشمالي في نيجيريا.
لكن بياناً صدر عن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، في 3 ديسمبر الماضي، استكمالاً لقرارات ترامب، ومستهدفاً تقليص تأشيرات الدخول للولايات المتحدة، سمّى تحديداً مجموعة فولاني العرقية في نيجيريا، كالجهة الأساسية المستهدفة من القرار، مضيفاً أنها مع جماعات أخرى تنفذ أعمال قتل جماعي بحق المسيحيين في نيجيريا. ووصف روبيو هؤلاء بـ"المليشيات الراديكالية الإسلامية".
والفولاني مجموعة عرقية واسعة في نيجيريا، وتمتد إلى الدول المجاورة، وهي تتبع الديانة الإسلامية. لكن واقع الحال في نيجيريا، أن ما يحكم أعمال العنف، أسباب مجتمعية يضاف إليها غياب الإدارة الحكومية الفاعلة على مرّ عقود، فضلاً عن أن ما يحكم تصرفات المواطنين هو الغرائز الإثنية والمجتمعية والعقائدية، أكثر منها "المواطنة" حيث إن الشعور بالانتماء إلى البلد، يتلاشى، أمام الصراعات على الأرض والماء والرزق والمال. وبحسب تقرير واسع لموقع "أفريكا ديفانس فوروم"، نشر في سبتمبر/أيلول 2023، فإن الفولاني "ولأنهم معزولون ويشعرون بأنهم موصومون، فقد أصبحوا أكثر ضعفاً ما سهّل تجنيدهم من الجماعات الإرهابية". ووفق التقرير، فإن كبار قادة الجماعات المتطرفة في المنطقة، أو مؤسسيها، هم من إثنية الفولاني، الممثلة أيضاً بقوة في هذه الجماعات (من مالي إلى نيجيريا).
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز، أسوشييتد برس)

Related News
تايلاند وكمبوديا.. وقف نار يطوي أسابيع من التصعيد الحدودي
al-ain
15 minutes ago