Arab
لم تعد غريتا ثونبرغ تضفر شعرها؛ فالطفلة السويدية صغيرة الحجم، ذات الوجه المتورّد، لم تعد كذلك منذ سنوات. فهي الآن في الثانية والعشرين من العمر، و"معتقلة" لحظة كتابة هذا المقال في لندن بموجب قانون مكافحة الإرهاب، إذ قُبض عليها خلال مشاركتها في مظاهرة لمضربين عن الطعام دعماً لغزّة، نظّمتها جماعة "سجناء من أجل فلسطين".
ما زالت غريتا على ثورتها. كبرت قليلاً عن تلك الصورة التي ظهرت فيها سابقاً: تلك الطفلة التي يصحّ أن يُقال إنها غيّرت العالم عن حق، حين كانت في السادسة عشرة من عمرها فقط، عندما دأبت على التظاهر أمام برلمان بلادها للتحذير من العواقب الوخيمة لتغيّر المناخ في العالم. كانت آنذاك طفلةً صغيرةً، لكنّها ثائرة، تُعنى بواحدة من أكثر القضايا تعقيداً في العالم بالنسبة إلى مَن هو في عمرها؛ أولئك الذين يذهبون إلى المدارس في الحي يومياً، وإلى السينما في نهاية الأسبوع، ويلاحقون ربّما أخبار المطربة الأميركية مايلي سايرس وأغانيها ومسلسلها "هانا مونتانا".
لكن غريتا لم تكن تفعل ذلك. كانت الطفلة المتورّد وجهها غالباً تعاني من متلازمة أسبرغر، وهو شكل من أشكال اضطراب التوحّد، إذ يعاني المصابون به صعوبات كبيرة في التواصل الاجتماعي، وتتميّز اهتماماتهم بأنها محدودة ومتكرّرة، لكنّهم رغم ذلك قد يتفوّقون على أقرانهم في مجال مُحدَّد إذا ما استحوذت على اهتمامهم بعض القضايا أو المشاغل. وهو ما حدث مع غريتا التي حوّلت محنتها إلى منحة لها وللبشرية، بتركيز اهتمامها في قضايا المناخ، ما قادها إلى الاهتمام بحقوق الإنسان المهدورة على هذا الكوكب، وفي القلب من ذلك فلسطين ومأساة قطاع غزّة التي تعرّضت لأسوأ عدوان وحشي في هذا القرن.
لم يكن اعتقال غريتا في لندن تجربتها الأولى في مراكز التوقيف والزنازين؛ فقد اعتُقلت في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ضمن آخرين أوقفتهم القوات الإسرائيلية ممَّن كانوا على متن سفن أسطول الصمود العالمي وقواربه.
آنذاك، ضُربت غريتا أكثر من غيرها على يد القوات الإسرائيلية والمحقّقين. تعمّدوا إذلالها: جُرّت من شعرها غير المضفور على الأرض، وشُتمت وأُهينت، وأُجبرت على تقبيل العلم الإسرائيلي، وحُبست في زنزانة ضيّقة مليئة بالبقّ. لكن ذلك كلّه لم يفتّ في عضدها، ولم يدفعها إلى التراجع عن مناصرة غزّة الذبيحة في عراء الكون وبين الأمم.
اعتُقلت قبل ذلك في يونيو/ حزيران الماضي. آنذاك كانت على متن السفينة مادلين، التي أبحرت لكسر الحصار عن غزّة، وإيصال المساعدات الإنسانية لسكّانها الذين كانت تُلقي إسرائيل عليهم الأطنان من المتفجّرات، على ما تبقّى من منازلهم وخيامهم ودورهم وديارهم.
وعندما سُئلت عمّا إذا كانت قد شعرت بالخوف عندما احتجزت القوات الإسرائيلية السفينة التي كانت تُقلّها هي ورفاقها، قالت إن ما يخيفها حقّاً "صمت الناس بينما تجري إبادة جماعية" في غزّة. حرّرها ذلك من "حبسة" الكلام التي تُعدُّ من أعراض متلازمة أسبرغر، إذ يعاني المصابون بها عدم القدرة الكافية على التواصل اللغوي مع الآخرين. قال والدها يوماً (ممثل سابق ومنتج فنّي، ووالدتها مغنية أوبرا) إن ابنته وجدت نفسها في القضايا العامة، وإن ذلك أسعدها وحرّرها من أسر المرض. ذلك أيضاً ما جعلها "شخصية العام" على غلاف مجلة تايم الأميركية عام 2019، ومن ضمن قائمة المرشّحين لنيل جائزة نوبل للسلام في العام نفسه، وكانت آنذاك في السادسة عشرة من العمر، علمًا أنها رُشّحت لنوبل لاحقاً أكثر من مرّة.
منذ ذلك العام وغريتا في صراع مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي كان ضمن مرشّحي "تايم" لشخصية العام. ولم تسلبه لقب "شخصية العام" وحسب، بل كانت له بالمرصاد في الأمم المتحدة ومنتدى دافوس، وفي أيّ مكان آخر وجدا فيه معاً لسبب أو لآخر، ما أظهره متنمّراً على طفلة صغيرة، والأسوأ بالنسبة إليه أنه لم يستطع الفوز في أيّ نزال معها.
غريتا الآن في لندن، في مركز توقيف قد تغادره قبل نشر المقال، لكنّها منتصرة بقضيتها؛ تلك التي جعلتها تتألّم لآلام الآخرين، وتفصح عن رأيها رغم عُسر التعبير لديها بالكلام. فمن قال إن غزّة وشقيقاتها من قضايا لا تُحرِّر؟ من قال هذا الهراء؟

Related News
تفجير حمص: «داعش» يتبنَّى... ودمشق تتوعَّد
aawsat
21 minutes ago
انفجارات قوية في العاصمة الأوكرانية كييف إثر هجوم صاروخي
aawsat
25 minutes ago
إسرائيل تعترف بـ«جمهورية أرض الصومال»
aawsat
45 minutes ago