Arab
في مثل هذه الأيام قبل تسع سنوات، كنّا نتمشى في سوق واقف وسط الدوحة، بعد تسلّمه جائزة الشيخ حمد للترجمة عام 2016، عن رواية "عشر نساء" للكاتبة التشيلية مارثيلا سيرانو.
قلتُ له مازحاً: "والآن لديك دولارات كثيرة، هل تشعر بأنك شخصٌ علماني؟". ضحك ضحكته التي تبدو دائماً انفعالية، ثم مضَت خطواتنا صامتة داخل ما كان يسمى "السوق العتم"، فلاحَت أمامنا أقدم مقهى تقدم شيشة "القدو" التقليدية.
وجدتُه يردد مقطعاً من قصيدة الشاعر الإسباني خوسيه أغوستين غويتسولو إلى ابنته خوليا:
"لا يمكنك الرجوعُ إلى الوراء
لأن الحياةَ ستدفعُك
كعواءٍ لا ينتهي".
مضى بالفعل، المترجم الفلسطيني صالح علماني (1949-2019) كما أرادت قدمان عنيدتان، وكما دفعتهُما ريحٌ أشدُّ عناداً، إلى تشييد جسر ثقافي بين الإسبانية والعربية، وفي القلب بينهما الأدب الأميركي اللاتيني، الذي كان فضلُه فيه لا يُدانى ولا ينازَع.
خلال أربعين عاماً بالتمام والكمال، منذ أول رواية بشّرت بقدومه عام 1979 "ليس لدى الكولونيل من يكاتبه"، حتى رحيله قبل ست سنوات يوم 3 ديسمبر/ كانون الأول 2019، ترجم علماني 113 كتاباً.
لا بل هي 115 كتاباً، نسبةً إلى ما أخبرتني به عائلته، بأن ثمة كتابين مترجمين كاملين لم ينشرهما، إضافة إلى بضعة فصول من كتاب ثالث.
واسيبونغو
الأول هو رواية "واسيبونغو" للإكوادوري خورخي إيكاثا، صدرت عام 1934 وتنتمي إلى ما يُسمّى أدب السكان الأصليين. وانكبّ علماني على ترجمتها بين عامي 2000 و2002.
الرواية قاسية تحكي كيف طُردت عائلة من الكيتشوا من أرضها الصغيرة، وإجبارها على العمل في شق طريق يخدم مصالح أجنبية. كتبها إيكاثا بمزيج من الإسبانية ولغة الكيتشوا المحلية، ما يجعل النص شديد الصعوبة على الترجمة.
منذ أول رواية بشّرت بقدومه عام 1979 "ليس لدى الكولونيل من يكاتبه" وحتى رحيله، ترجم 115 كتاباً
لم تترجم هذه الرواية من قبل، ويبدو أن علماني اختارها، لأنها تنتمي إلى نصوص التأسيس المهمَلة، تلك التي كشفت بنية الاستعمار الداخلي في أميركا اللاتينية.
شجرة البرتقال
الكتاب الثاني الذي تركه لنا هو مجموعة نوفيلات للروائي المكسيكي كارلوس فوينتس (1928-2012) تحت عنوان "شجرة البرتقال"، وعمل على ترجمتها بين عامي 2003 و2007.
هي خمس قصص طويلة تمتد من إسبانيا في القرن الخامس عشر إلى المكسيك المعاصرة، وتتأمل في أصول الهوية اللاتينية وعلاقتها بإسبانيا، وفي العنف المؤسِس للقارة.
من بينها نوفيلا بعنوان "أبناء الفاتح"، تدور حول أبناء إرنان كورتيس (القائد الإسباني الذي غزا المكسيك) غير الشرعيين، عن كيف أن الفتح لم ينتج إمبراطورية فحسب، بل هويات ممزقة، وذاكرة لا تستطيع أن تتصالح مع نفسها.
قاتل إله
أما الثالث فهو ترجمة غير مكتملة لأطروحة الدكتوراه لماريو بارغاس يوسا عنوانها "غابرييل غارسيا ماركيز: قصة قاتل إله"، التي كتبها في مدريد عام 1971.
قبل أي شيء نحن أمام نص لم تسعفنا فرصة مطالعته كاملاً، وغالبيتنا ربما لم تسمع به وبرسالة الدكتوراه تلك، إذ إن الكاتبين افترقا بعيداً سياسياً واجتماعياً، منذ عام 1976، بما يجعل تأريخ الانفصال ماسحاً بعنف كل ما قبله مع لكمة يوسا الشهيرة على وجه ماركيز.
ربما توقف علماني عن إكمال ترجمته، إذ وجده تقنياً أكثر مما ينبغي، أو لعله أراد البقاء في الأدب نفسه، لا في نقده، كما قال لي نجله عمر علماني، وهو أيضاً مترجم عن الإسبانية إضافة إلى الإنكليزية.
ما يهمّنا قوله إن يوسا كان مفتوناً وقتذاك بماركيز وعمله الفذ "مئة عام من العزلة" التي نشرت عام 1967، حتى إن أطروحته سمّت ماركيز قاتلاً للإله، بالمعنى الرمزي الذي جعله خالق عالم كامل اسمه ماكوندو لم يكن مخلوقاً من قبل، ودارت فيه روايته بشخوص حية على مدار سبعة أجيال.
أقدار برشلونية
على أن حكايتنا التي نحكيها عن مترجمنا هي بالتحديد برشلونية الأقدار والمصادفات، حيث كان ثلاثة، اثنان روائيان جاران من نجوم ما يعرف بـ"البوم اللاتيني" أحدهما الكولومبي ماركيز، في منتصف الأربعينيات، يسمع جيران العمارة طقطقة آلته الكاتبة بالقرب من الشباك، وهو يؤلف أصعب رواياته "خريف البطريرك".
الثاني هو البيروفي يوسا في منتصف الثلاثينيات يكتب رواية ساخرة بعنوان "بانتاليون والزائرات"، والثالث فلسطيني في منتصف العشرينيات، يشتغل عتالاً في الميناء.
في مطلع 1973، كان صالح علماني في الرابعة والعشرين من عمره، يكدّ ويجهد في تحميل شوالات البطاطا البذريّة المعدّة للتصدير إلى بريطانيا. يقبض يومياً أجره آخر النهار، ويدخر منه حتى آخر موسم البطاطا ليؤمن تحويشة تغطّيه أشهراً لاحقة.
التقى ماركيز ويوسا في بداية السبعينيات في ملهى بوكاثيو العريق، مقر اليساريين الحالمين في برشلونة
لا يحتاج الواقع إلى خيال لكي يبدو مُحكماً: بين الميناء الرطب، وعضلات عمّال نحتتها العِتالة، وصعود الباخرة والهبوط، وبينهم شاب عربي، والحي الذي يقطنه كاتبان مشهوران.
كان صالح اسماً مغفلاً لطالب وصل مدريد عام 1969، وتعلم فيها اللغة، ومنها رحل إلى سرقسطة حيث بدأ تحقيق حلم العائلة التي تشردت في النكبة من ترشيحا في الجليل الأعلى إلى حمص في سورية، وتريد أن يكون لديها طبيب يشار إليه بالبنان.
وصل الطالب إلى السنة الثالثة، ثم قرّ قراراً لا رجعة فيه. أرسل إلى أهله: لقد تخليتُ عن الطب ودراسته. لا ترسلوا أي مال بعد الآن.
يمّم شطر برشلونة، ودرس فيها شيئاً من الصحافة، واشتغل بالمطاعم والمزارع، ولكن بالأخص الميناء، لأن غلّته أوفر. في تلك اللحظة، لم يكن في الأفق أي وعد آخر.
يلتقي ماركيز ويوسا في ملهى بوكاثيو العريق، مقر اليساريين الحالمين وحركتهم ذات الاسم التهكّمي: "اليسار الإلهي"، وفي الأثناء يستعير الشاب عتّال المياومة من صديق كوستاريكي التقاه في مقهى رواية "مئة عام من العزلة"، ومن فرط تعلقه بها قرأها في يومين، ثم تحمّس وترجم منها فصلين.
الحظ والموهبة
لم يكن يعرف أن هذه الترجمة الناقصة ستكون العلامة الأولى على مصير كامل، ولا أن إرادة القدمين وريح الطبيعة تضعه مع هذين الاسمين في مدينة واحدة ستُعاد كتابتها بعد سنوات داخل اللغة العربية.
نحن ربحنا مترجماً كبيراً من مصادفات رحيمة وأخرى خشنة، ومن منطقة "الحظ والموهبة"، التي قالها محمود درويش في "لاعب النرد". الحظ من تدابير المصادفة، ورشح الجبين من مواظبتنا على قطع الطريق "الطويل إلى آخره".
شخصٌ مؤسسة، يعرف صناعة الكتاب من بدايتها إلى نهايتها
بينما يحدث كل هذا في صالونات برشلونة الأدبية، كان علماني يعيش في هوامش المدينة الاجتماعية، بعيداً عن تلك الدوائر. لم يعرف أن الأدب الذي سيسخّر له حياته يُكتب على بُعد شوارع منه.
الأمر المؤكد أن برشلونة ستكون عند احتضار الدكتاتور فرانكو من دون أي أثر للثلاثة، الكاتبين المشهورين والشاب الذي لا يعرفه أحد. جميعهم غادروا قبل رحيل الدكتاتور في ديسمبر/ كانون الأول 1975.
بلا خطة واضحة، سوى إحساس غامض أن الطريق الذي انفتح هناك لم يُغلق تماماً، عاد علماني إلى سوريّة. التحق بالخدمة العسكرية، وبدأ في الأثناء دراسة اللغة العربية في جامعة دمشق.
أعاد بناء أدواته اللغوية من جذورها، لأن الترجمة عنده كانت تبدأ من إيمانه بالطاقة الجبارة للغة العربية الكافية كي يكتشف الآخر، بتواضع وشغف، مطبقاً تنظير الباحث في تاريخ الأفكار عبد الحق الزموري، بأن المترجم يبحث عن ذاته في المترجم له، وعن المشترك الإنساني الذي تفرّع عنه الاختلاف والتعدد والألسن.
كان المترجم الذي نقل عيون تلك الانعطافة الكبرى في السرد العالمي باسمها "الواقعية السحرية"، والاسم الحركي الفاقع "البوم اللاتيني"، يزداد قناعة بأنه يترجم ذاته العربية الفلسطينية.
من بين معلّميه كان الناقد حسام الخطيب (1932-2022) أستاذ الأدب المقارن، الذي بشّر به، وأعطاه وعياً مبكراً بأسئلة الأسلوب، والعلاقة بين النصين الأصلي والمترجَم.
لنا أن نلاحظ هذا الشغل المحموم ما بين 1979 و1981، فقد ترجم ستة كتب إضافة إلى نشاطه في الترجمات للصحافة والمجلات الثقافية. وكان منذ البداية قادماً وحده بمشروع ترجمة جعل اسمه يتردد في مشهد ثقافي عربي، متشوّق للمزيد القادم من ذاك العالم الهسبانوأميركي الساحر.
هوس القراءة
والمترجم يتحدث عن مترجم آخر فينصفه. يقول صديقه الأكاديمي والمترجم الإسباني أنطونيو مارتينيز كاسترو لـ"العربي الجديد" إنه كان يشعر بالاكتفاء إذا ما ترجم بضع صفحات كل بضعة أيام، بينما علماني كان ينتج يومياً على طبليته الشهيرة، من دون أن تتأثر حياته الاجتماعية.
كان مهووساً بالقراءة، يصفه، وفوق ذلك فإن نهجه "غير معهود لي"، فهو شخصٌ مؤسسة، يعرف صناعة الكتاب من بدايتها إلى نهايتها، ويتابع الإصدارات الحديثة، وأكثر من ذلك يتواصل مع المؤلفين مباشرة، في زمن لم تكن فيه وسائل الاتصال سهلة كهذه الأيام.
سيصبح الشاعر الكوبي نيكولاس غيين (1902-1989) صديقه الشخصي، حين عاش علماني في هافانا بضعة أشهر، ولكن قبل تعارفهما نشرت مجلة "الكرمل" في عددها الثاني 1981 ترجمته لمختارات هذا الشاعر، وهي تبدأ بقصيدة "تعجبني بعض الساعات مثل الثالثة إلا ربعاً، لأن الساعة تبدو عندها في وضع أخوي مرحّب".
وفيما بعد نشرت الكرمل رواية فوينتس القصيرة "آورى" عام 1986. وكان إعجاب محمود درويش بالمترجم بلغ حد القول إن "علماني ثروة وطنية ينبغي تأميمها"، العبارة التي نقلها الشاعر أحمد دحبور (1946-2017)، وتداولها الناس، علماً أن دحبور ومن قبله حسام الخطيب كانا صلة الوصل المبكرة بين درويش وعلماني.
"أنا من ترشيحا"
في الذكرى السادسة لرحيله هذا العام، ما زالت صفحته في موقع "فيسبوك" تعرّف نفسها تحت البروفايل "أنا من ترشيحا". غير أن بلدته في الجليل الأعلى لم يسبق أن عرفته، فقد ولد بعد النكبة بسنة، وهي تعرف فقط الذين عاشوا فيها.
غير أن قانون القلب مكسورٌ ومجبور. نيابة عنه وصل كاسترو إلى ترشيحا عام 2008، بجواز سفره الإسباني، ملبياً وصية صالح بأن يزور بلدته، التي لا يستطيع زيارتها، لأن وثيقته الفلسطينية غير مؤهلة.
وهو يحكي الحكاية لنا، قال الباحث الإسباني إنه وصل هناك بالفعل، والتقى جارتهم، المرأة الرمز فاطمة الهواري التي كان عمرها 18 عاماً حين قصف الصهاينة بيتهم، ففقدت عائلتها، وأصيبت هي في عمودها الفقري، وعاشت مشلولة.
وشهدت ترشيحا منتصف التسعينيات مواجهة بين الطيار آبي ناتان الذي ألقى القنابل وجاء معترفاً بجريمته، وبين فاطمة الهواري الناجية بشلل إلى أن توفيت في 2012. ناتان مات في 2008.
قالت فاطمة التي يصفها كاسترو بالحيوية جداً رغم أنه مقعدة، والمواظبة كذلك على التدخين إنها تتذكر عائلة علماني كلها فرداً فرداً.
إلى فلسطين
كثيرة هي التكريمات التي نالها علماني ويستحقها، من مدرسة المترجمين في طليطلة عام 2013، وجائزة جيراردو دي كريمونا عام 2015، وجائزة الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمية للترجمة عام 2016، وجائزة الشيخ حمد للترجمة عام 2016.
بيد أن واحداً منها سنستعيده، لأنه سيضع صالح أمام بوابة فلسطين ليدخلها لأول مرة، مع نيله وسام الثقافة الفلسطيني عام 2014.
هذه المرة ترافق علماني والأكاديمي والمترجم لويس ميغيل بيريث كانيادا المدير السابق لمدرسة المترجمين في طليطلة من إسبانيا إلى الأردن، ثم إلى جسر الملك حسين، أو معبر الكرامة.
كتب كانيادا لـ"العربي الجديد" يقول: "في ذكرى صالح علماني، الرجل الطيب الكئيب الوحيد والصديق الذي لا يُنسى.
أنظر إلى الوراء فأدرك أن رحيله المبكر حرمه من أن يرى نهاية الحرب الأهلية في بلده الذي تبنّاه، (سورية) وحرمه من أن يشيد بيتاً لمترجمي العالم، حلمه الأخير، كما حرمه من أن يقدّم للقارئ العربي ترجمات جديدة لأروع ما أُنتج في أدب إسبانيا وأميركا.
مع ذلك، فقد جنّبه أيضاً أن يكون شاهداً على الإبادة في غزة وأن يُعاني ألماً جديداً، ربّما لا تُطيقه صحّته.
أنظر إلى الأمام فأواصل رؤية وجهه الحزين العاجز في يوم من أيام فبراير/ شباط 2014. كنا قد سافرنا معاً جواً من إسبانيا إلى الأردن لنتوجّه إلى رام الله لتسلّم وسام الثقافة والعلوم والفنون الفلسطيني (للإبداع الأدبي) من الرئيس الفلسطيني محمود عباس.
وعند هبوطنا في عمّان، أبلغته السلطات الإسرائيلية برفض منحه الإذن لدخول فلسطين. تركناه هناك، محمود صبح، وصلاح جمال، وأنا، وحيداً في القاعة الكبرى للمطار. كان وجهه الصورة الحيّة للعجز والظلم اللذين يعانيهما الشعب الفلسطيني".
البحر المتوسط
توفّي صالح علماني في بلنسية (فالنسيا)، وكنتُ ذات مرّة عائداً من الإكوادور حين سألته هل فكرتَ في العيش بأميركا اللاتينية، فكان واضح الجواب بأنه بعد الستين لا يمكنه أبداً الابتعاد عن البحر المتوسط.
لا يوجد لدينا في الآخر سوى التأمين على عبارة كاسترو "من الصعب دخول مكتبة عربية من تطوان إلى بغداد لا تتوفّر على كتب تحمل اسمه". إنها عبارة بسيطة بساطة الطبليّة والشقاء النبيل، وليس أفضل من تجاوب مع كل هذا سوى قول "شكراً يا صالح".

Related News
تفجير حمص: «داعش» يتبنَّى... ودمشق تتوعَّد
aawsat
26 minutes ago
انفجارات قوية في العاصمة الأوكرانية كييف إثر هجوم صاروخي
aawsat
30 minutes ago
إسرائيل تعترف بـ«جمهورية أرض الصومال»
aawsat
50 minutes ago