Arab
على مدار العقد الماضي، شكَّلت تجربة المغني السوري، أنس مغربي (يُطلق على نفسه لقب أبو محمد)، من خلال فرقته الشهيرة "خبز دولة"، نموذجاً حياً لتفاعل الفنان مع أزمات بلده وانكساراته، إذ حوَّل معاناة الحروب والنزوح إلى مواد أوليّة لأغانٍ تحمل في طياتها صرخاتٍ إنسانيةً ورسائلَ وجوديةً، وقد استطاع عبر فرقته أن يروي سردية جيلٍ كاملٍ عايش زلزال الربيع العربي وعواقبه، من خلال صوتٍ موسيقيٍّ هجين يجمع بين حدة الروك وموسيقى المشرق، ليُنتج ما أسماه الروك الشعبي الذي يتحدث بلغة العصر عن هموم الناس العاديين الذين يتوقون إلى أبسط حقوقهم الإنسانيّة، تلك الحقوق التي لم تعد متاحة في ظلّ ظروف الحرب والتشرذم.
مثَّلت رحلة مغربي من مدينة النبك السوريّة إلى برلين الألمانيّة عبر محطات بيروت وتركيا، تحولاتٍ جوهريةً في مساره الموسيقي. بدأ حياته الفنيّة في مرحلة الطفولة في مدينته البسيطة، ثم انتقل إلى تجربة الروك البديل مع فرقة "أنا" التي تأسّست عام 2009، قبل أن تدفعه الظروف الصعبة التي عصفت بسورية نحو اللجوء إلى بيروت، حيث أسس مع أصدقائه فرقة "خبز دولة" عام 2013، وبدأت مسيرة جديدة تتسم بالبحث عن صوت موسيقي يجمع بين الأصالة والحداثة، وبين التعبير عن الواقع المعقد الذي يعيشه السوريون وتطلعاتهم إلى غدٍ أفضل. استطاع من خلال تعاونه مع عدد من المؤسسات الثقافية والفنانين العرب، أن ينتج ألبوماً يحمل اسم فرقته، ويطرح من خلاله أسئلة وجودية حول الهوية والوطن والانتماء. اختار "أبو محمد" هذا الاسم لفرقته إحالةً إلى رمزية الخبز الذي كانت تدعمه الحكومة السوريّة، وقد ارتبط لدى المواطنين بفكرة الاستقرار والكرامة.
اللافت في مسيرة مغربي هو الانتقال التدريجي من الروك البديل الذي اشتهرت به خبز دولة، إلى عالم الإنتاج الموسيقي الإلكتروني تحت اسم "أبو محمد"؛ إذ بدأ هذا التحوّل عبر مشاريع فردية تزاوج بين الهيب هوب والفولكترونيكا والسينثويف، قبل أن يتبلور في مشروعه الأحدث "نايت شفت" الذي يمثل نقلة نوعية في تجربته، نحو استكشاف إمكانيات الدمج بين التراث الغنائي الشعبي المشرقي والتقنيات الإلكترونية المعاصرة، في محاولة لإعادة تقديم هذا التراث بلغة سمعية جديدة تتناسب مع ذائقة الجيل الرقمي.
يأتي ألبوم "نايت شفت"، الصادر في يونيو/حزيران من العام الحالي، ليمثل محطة جديدة في مسار أنس مغربي الإبداعي، ويتكون الألبوم من 7 تراكات، هي عبارة عن مزيج إلكتروني لأغانٍ منوّعة من منطقة الفرات السورية والخليج العربي، وقد أُعيد إنتاجها وتخيُّلها من جديد في قالب موسيقي حديث، إذ يعيد مغربي صياغة هذه المادة التراثية الغنائية من خلال منظور منتج موسيقي معاصر، مستخدماً أدوات العصر الرقمي لاستخراج الأبعاد الجمالية الكامنة في هذه الأغاني، وتقديمها بما يتجاوز فكرة الدمج السطحي بين القديم والجديد، نحو خلق عالم صوتي متكامل، يُعيد الاعتبار للتراث بوصفه حقلاً خصباً للتجريب والتجديد.
تكمن أهمية هذا المشروع في كونه يتجاوز فكرة الفيوجن الموسيقي (الدمج) التقليديّة (غالباً ما تقتصر على إضافة بعض العناصر المحليّة إلى موسيقى غربية الجذور) إلى محاولة إعادة قراءة المادة التراثيّة نفسها من الداخل، وفهم أنظمتها الإيقاعيّة والمقاميّة، ثم إعادة بنائها باستخدام أدوات إنتاجيّة معاصرة، ما يتطلب فهماً عميقاً لكلا العالمين: عالم التراث الموسيقي العربي بكل تفاصيله الدقيقة، وعالم الإنتاج الإلكتروني الحديث بتقنياته المتطوّرة وإمكانياته الواسعة.
تتنوع مصادر الأغاني بين مناطق جغرافية وثقافية مختلفة، فنجد منها ما يعود إلى تراث الخليج العربي، مثل أغنية "درب النشايب" التي تتحدث عن الفخر بالأصل والتحدي والصمود في وجه الصعاب، وأغنية "يا شوفير المرهدن" الديريّة (دير الزور) التي تحكي بسخرية لاذعة عن سائق متهور لا يبالي بسلامة الركاب، وهي تعكس روح الدعابة والنقد الاجتماعي في التراث الغنائي الشعبي.
إلى جانب ذلك، نجد أغاني مثل "عقرب صدرك" التي تعبر عن آلام الحب والغربة، و"يا بنت أنا " التي تروي قصة حب متعدّدة الأبعاد، إلى جانب أغنية "أم الزلف" الشهيرة التي تتغنّى بجمال الفتاة وفرحة اللقاء بالأحباب، وقد أعاد مغربي صياغة هذه المادة الغنائية التراثية، ليس على المستوى الموسيقي فحسب، بل أيضاً على مستوى تقديمها البصري، إذ حرص على تصميم غلاف فني مميز للألبوم، ما يعكس رؤية شاملة للمشروع تتجاوز الجانب السمعي، لتشمل الجانب البصري أيضاً.
على مستوى التقنيات الإنتاجية، يكمن التحدي الأكبر في كيفية التعامل مع الصوت الغنائي التراثي وتحويله إلى مادة قابلة للمعالجة الإلكترونية، فتعتمد غالبية الأغاني التراثية المختارة على التسجيلات القديمة التي تحمل في طياتها خصائص تقنية وزمنية محددة، وقد استطاع مغربي من خلال مهارته منتِجاً موسيقياً، أن يستخرج العينات الصوتية من هذه التسجيلات، ويعيد توزيعها ضمن إطار إلكتروني جديد، مع الحفاظ على الروح الأصلية للأداء الغنائي.
يأتي مشروع "نايت شفت" في سياق تحوّلات عميقة في المشهد الموسيقي العربي المعاصر، فتشهد السنوات الأخيرة اهتماماً متزايداً من جيل جديد من المنتجين الموسيقيين بإعادة اكتشاف التراث الموسيقي العربي وإنتاجه بأدوات معاصرة، غير أن ما يميز تجربة مغربي هو الخلفية الموسيقية المتنوعة التي يحملها.
يقدم مغربي رؤية للموسيقى العربية التراثية من منظور الفنان المهاجر الذي يعيش في بيئة ثقافية مختلفة، ما يمنحه مسافة نقدية تتيح له رؤية التراث من زوايا جديدة، والتفاعل معه بطرق إبداعية قد لا تكون متاحة للفنان المقيم في البيئة الثقافية الأصلية، وهنا نجد تقاطعاً بين تجربة مغربي الفنية وتجارب عربية أخرى في الشتات، تسعى إلى إعادة تعريف الهوية الثقافية من خلال الفن والموسيقى. تكمن أهمية هذا المشروع في توقيته، فيأتي في مرحلة تبدأ فيها بعض ملامح الاستقرار النسبي في الظهور في سورية، وتبدأ أسئلة إعادة الإعمار الثقافي تبرز على السطح، ويقدم المشروع إجابة عملية على هذه الأسئلة، من خلال نموذج يمكن أن يحتذى به في مجال إعادة بناء المشهد الثقافي السوري.

Related News
تفجير حمص: «داعش» يتبنَّى... ودمشق تتوعَّد
aawsat
25 minutes ago
انفجارات قوية في العاصمة الأوكرانية كييف إثر هجوم صاروخي
aawsat
29 minutes ago
إسرائيل تعترف بـ«جمهورية أرض الصومال»
aawsat
49 minutes ago