Arab
نشرت وكالة رويترز اليوم الاثنين تحقيقاً موسّعاً عن الاعتقالات في سورية الجديدة، وممارسات السلطة وسجونها، وخصوصاً مع محتجزين من السوريين من الطائفة العلوية. وجاء فيه أن السوريين بينما كانوا يقتحمون مراكز اعتقال النظام السابق في ديسمبر/ كانون الأول العام الماضي بحثاً عن أحبائهم الذين اختفوا في ظل حكم الأسد، وقع آلاف من المجنّدين وضباط الجيش السوري، الذين تركوا مواقعهم العسكرية، في قبضة الفصائل المعارضة التي أطاحت النظام. ثم جاءت الموجة الثانية في منتصف الشتاء: اعتقلت السلطات الجديدة مئات من أبناء الطائفة العلوية، التي تنتمي إليها عائلة الأسد، من مختلف أنحاء سورية، ومعظمهم من الرجال. وتصاعدت وتيرة هذه الاعتقالات بعد ما سمّتها الوكالة "انتفاضة قصيرة" في منطقة الساحل في مارس/ آذار أسفرت عن مقتل عشرات من قوات الأمن، ما أدّى إلى أعمال انتقامية أودت بحياة ما يقرب من 1500 سوري علوي. ولا تزال هذه الاعتقالات مستمرّة.
وبحسب "رويترز"، بدأت في الصيف الماضي موجة أخرى من "الاعتقالات الجماعية" في الجنوب بين الأقلية الدرزية، بعد مقتل مئات في أعمال عنف طائفية، وسط اتهامات لقوات حكومية بتنفيذ عمليات إعدام ميدانية وانتهاكات أخرى.
حقوقيون ومسيحيون: تعرضنا لابتزاز للحصول على معلومات أو أموال
وعلى ما تذكر الوكالة في تقريرها التي أعدّته مراسلتها ماجي ميشيل، شهدت سورية اعتقالات أخرى، طاولت مختلف الطوائف، بذريعة الحفاظ على الأمن: كُثر من الأشخاص، عدد كبير منهم من الأغلبية السنية في سورية، اتهموا بأن لهم صلات مع نظام الأسد لم يتم تحديدها، ونشطاء حقوقيون، ومسيحيون يقولون إنهم تعرّضوا للابتزاز من أجل الحصول على معلومات أو أموال، وشيعة اعتقلوا عند نقاط تفتيش لاتهامهم بأنهم على صلة بإيران أو حزب الله اللبناني.
وذكرت "رويترز" أن تحقيقاً أجرته كشف أن بعض السجون ومراكز الاحتجاز التي كانت تضم عشرات آلاف من المعتقلين خلال حكم الأسد، أصبحت اليوم مكتظة بسوريين تحتجزهم قوات الأمن من دون توجيه تهم رسمية. وجمعت رويترز أسماء ما لا يقل عن 829 شخصا جرى اعتقالهم "لأسباب أمنية" منذ سقوط الأسد قبل عام، استنادا إلى مقابلات مع محتجزين سابقين وأفراد من عائلات معتقلين. وللوصول إلى هذا العدد، راجعت الوكالة أيضا قوائم غير كاملة بأسماء المعتقلين أعدّها أشخاص نظموا زيارات عائلية إلى سبعة مراكز احتجاز. وبناء على مقابلات الوكالة وقوائم المعتقلين وشهادات متعددة لديها عن الاكتظاظ في السجون ومراكز الاحتجاز، فإن عدد المعتقلين لأسباب أمنية أعلى بكثير من الذي تمكنت "رويترز" من جمعه. وبحسبها أيضاً، من عشرات المقابلات، عادت بعض الانتهاكات التي كان السوريون يأملون أن تنتهي بسقوط الأسد على يد رجال يعملون لمصلحة الحكومة المؤقتة: الاعتقالات التعسفية من دون توجيه تهم أو وجود أوراق رسمية، استخدام بعض أساليب التعذيب والانتهاكات نفسها، بالإضافة إلى حالات وفاة خلال الاحتجاز لا يتم تسجيلها. كما وقع معتقلون ضحية للابتزاز، بحسب مقابلات مع 14 عائلة. وأوردت "رويترز" أنها اطلعت على مراسلات خمس من هذه العائلات مع من يزعمون أنهم حرّاس في السجون أو وسطاء يطالبون بالمال مقابل إطلاق سراح أحد أقاربهم. وكان الرئيس أحمد الشرع قد تعهد في ديسمبر/ كانون الأول 2024 بإغلاق "السجون سيئة السمعة" التي أنشأها الدكتاتور المخلوع. لكن رويترز تنشر أن تحقيقها وجد أن ما لا يقل عن 28 سجنا ومركز احتجاز من عهد الأسد عادت للعمل في العام الماضي.
وزارة الإعلام: أعداد المتورّطين بانتهاكات في زمن النظام البائد كبيرة جداً
وذكرت وزارة الإعلام السورية ردا على أسئلة من "رويترز" حول نتائج هذا التقرير أن ضرورة تقديم المتورّطين في الانتهاكات التي حدثت في عهد الأسد إلى العدالة تفسّر عمليات اعتقال عديدة وإعادة فتح بعض مراكز الاحتجاز. وقالت الوزارة: "أعداد المتورّطين في جرائم وانتهاكات في سورية في عهد النظام البائد كبيرة جداً نظراً إلى حجم الانتهاكات التي وقعت. وهناك جرائم سابقة وهناك تورّط في انتهاكات جديدة وتهديد للأمن والاستقرار من مرتبطين بالنظام. إضافة إلى جرائم أخرى منها ذات طابع جنائي". وقالت الحكومة إن عدد السوريين الذين تم الإفراج عنهم خلال العام الماضي يفوق عدد المحتجزين حاليا، لكنها لم تقدّم أي أعداد محددة.
تشمل مرافق الاحتجاز التي رصدها تحقيق "رويترز" سجونا رئيسية ومراكز اعتقال كبيرة ضمن مجمعات ضخمة، كان يديرها في السابق جهاز المخابرات التابع للأسد، بالإضافة إلى مراكز احتجاز أصغر عند نقاط التفتيش ومخافر الشرطة. ويفتقر المحتجزون في هذه المرافق إلى سبل الانتصاف القانونية، وأفادت 80 عائلة على الأقل بأنها فقدت أثر أقاربها أشهراً طويلة.
ويختلف مستوى السماح للمحامين وأفراد العائلات بزيارة المحتجزين من منشأة إلى أخرى. ووجدت رويترز أن توجيه تهم علنية للمعتقلين الأمنيين أمر نادر، بخلاف ما يحدث مع المتهمين بجرائم جنائية.
كما وجدت "رويترز" أن المعتقلين لأسباب أمنية ينقلون إلى سجون كانت تابعة لقوات المعارضة، بما فيها التي كان يقودها الرئيس الشرع في معقله السابق في محافظة إدلب بشمال البلاد. وانضم هؤلاء المعتقلون إلى سجناء محتجزين هناك منذ سنوات "الحرب الأهلية" لأسباب أمنية، وفقا لشهادات نحو 12 سجيناً سابقاً.
في مختلف أنحاء سورية، تحدث معتقلون سابقون وعائلات معتقلين حاليين في مقابلاتٍ مع "رويترز" عن ظروفٍ غير إنسانية، عانوا منها هم أو أقاربهم في أثناء احتجازهم، من اكتظاظ شديد ونقص في الغذاء وانتشار الأمراض الجلدية نتيجة نقص الصابون. وأكد كل من المعتقلين لأسباب أمنية والمتهمين بجرائم عادية أن سوء المعاملة والإهمال متفشيان في مراكز الاحتجاز التي سجنوا فيها. كما وصف 40 شخصا قابلتهم "رويترز"، كانوا معتقلين سابقين أو من عائلات المحتجزين، تعرّضهم لسوء المعاملة وأحيانا للتعذيب، لا سيما في مراكز الاحتجاز غير القانونية. وتذكر الوكالة إنها وثقت وفاة ما لا يقل عن 11 شخصا رهن الاحتجاز، بينهم ثلاث حالات قالت فيها العائلات إنها لم تعلم بوفاة أبنائها إلا بعد دفنهم.
وأوضحت الوكالة أنها أجرت مقابلات مع أكثر من 140 سورياً لإعداد تحقيقها بينهم معتقلون سابقون وأقارب ومحامون ونشطاء حقوقيون. كما اطلعت على مراسلات بين حرّاس سجون وعائلات معتقلين، علاوة على صور توثق حالات تعذيب مزعومة. وأفادت بأنها لم تتمكن من التحقق بشكل مستقل من بعض تفاصيل روايات المعتقلين وعائلاتهم، غير أن روايات من قابلتهم اتفقت في تفاصيلها، بما في ذلك ما وصفوه من سوء معاملة في أماكن الاحتجاز.
وفي بيانها قالت الحكومة السورية "في مرحلة ما بعد الأسد نحن بحاجة إلى إعادة تأهيل المؤسّسات القانونية والقضائية والأمنية"، وأضافت: "وهنا تحدث كنتيجة طبيعية وحتمية لهذا الواقع الصعب بعض الفراغات تؤدي إلى وقوع نتائج سلبية تخالف السياسات في بعض الأحيان". وقالت الحكومة إنها فرضت إجراءات تأديبية على 84 من عناصر قوات الأمن بسبب وقائع ابتزاز مرتبطة بالمحتجزين و75 عنصراً بسبب أعمال عنف. ومنذ يناير/ كانون الثاني، أعلنت وزارة الداخلية السورية عن اعتقال أكثر من مائة شخص بتهم تتعلق بانتهاكاتٍ مزعومة في عهد الأسد. ولا يشمل إحصاء "رويترز" الذين تم الكشف عن أسمائهم وتوجيه اتهامات محددة إليهم.
حقوقيون: اعتقالات جماعية وحالات اختفاء قسري رغم وعود حكومة الشرع
لا تصل الظروف الموصوفة في السجون ومراكز الاحتجاز إلى مستوى وحشية حكم الأسد. فقد أشرف الدكتاتور المخلوع على اختفاء أكثر من مائة ألف سوري خلال الحرب الأهلية. ولا تزال المقابر الجماعية التي أنشأها النظام لإخفاء جثث القتلى تُكتشف. وبحسب تقديرات للأمم المتحدة في عام 2022، قتل أكثر من 300 ألف مدني سوري خلال الحرب. وحكم حافظ الأسد، والد بشار، سورية بقبضة حديدية لا تقل وحشية، وأشرف كلاهما على نظام اشتهر بالتعذيب والابتزاز والإعدامات خارج نطاق القانون على نطاق واسع. وتنقل "روتيرز" عن مدافعين عن حقوق الإنسان، لم تسم أحدا منهم، قولهم إن الاعتقالات الجماعية وحالات الاختفاء القسري تلقي بظلالها على حكومة الشرع التي وصلت إلى السلطة على وعد بإخراج سورية من أكثر من خمسة عقود من حكم عائلة الأسد.
وقال مسؤول كبير في الإدارة الأميركية ردا على سؤال بشأن أوضاع السجون الواردة في التقرير، إن ترامب "ملتزم بدعم استقرار سورية ووحدتها وبأن تعيش في سلام داخلي وسلام مع جيرانها". وذكرت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان في بيان في الخامس من ديسمبر/ كانون الأول الحالي أنها تتلقى "روايات مروّعة عن عمليات إعدام بإجراءات موجزة، وقتل تعسفي، وعمليات اختطاف منذ سقوط الأسد". وقال ثمين الخيطان، المتحدث باسم المفوضية، ثمين الخيطان، لـ"رويترز" إن المفوضية غير قادرة على إعداد سجل شامل لحالات الاحتجاز الأمني. وأضاف: "لا يزال من الصعب أن نحدّد بدقة عدد الأفراد المحتجزين أو عدد الذين أُفرج عنهم، أو الحالات التي قد تصنّف ضمن الاختفاء القسري... وفي بعض الأحيان، قد تتردد العائلات في الإدلاء بمعلومات خوفا من العواقب".
وقد تظاهر في 25 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني) آلاف السوريين العلويين في المناطق الساحلية المطلة على البحر المتوسط احتجاجا على "الهجمات الطائفية"، وللمطالبة بالإفراج عن أفراد من طائفتهم اختفوا بعد اعتقالهم. وكانت هذه المظاهرات من بين الأكبر منذ سقوط الأسد.
وكان سجن صيدنايا في دمشق الأسوأ سمعة خلال عهد الأسد مركزاً للتعذيب والاختفاء والموت، من بين سجونٍ عديدة أغلقت فور سقوط الدكتاتور. ولا يزال خالياً، وهو واحد من عدة مراكز احتجاز أعلنت الحكومة الجديدة إغلاقها. لكن "رويترز" وجدت أن موقعين في دمشق أعلنت الحكومة إغلاقهما، وهما سجنا مطار المزّة العسكري وفرع الخطيب، استأنفا العمل خلال العام الماضي.
وقال عامر مطر، وهو صحافي ومخرج أفلام يتركز عمله في قضايا حقوق الإنسان إنه احتُجز في عهد الأسد أربعة أشهر في مراكز احتجاز مختلفة. وبعد سقوط النظام، زار مراكز احتجاز وصوّر وثائق بهدف مساعدة عشرات الآلاف من العائلات في العثور على أفرادها ومحاسبة الجناة عبر بوابة إلكترونية تسمى "متحف سجون سوريا"، تتيح الوصول إلى الملفات والصور والأدلة التي يجمعها. وحينما زار سجن فرع الخطيب في فبراير/ شباط، مُنع من الدخول في البداية بحجّة وجود سجناء بداخله، لكنه تمكن من الدخول وشاهد رجالاً مكتظين في زنزانة كان قد احتجز فيها 16 يوما في عهد الأسد. وزار مطر مركز احتجاز حرستا في دمشق، الذي كانت تديره سابقاً شعبة المخابرات الجوية التابعة للأسد، واشتهر بممارسات تعذيب وحشية. أخبره الحرّاس بوجود سجناء جدد، لكنهم سمحوا له بالدخول.
وفي سبتمبر/ أيلول، كان مطر متوجّها إلى لبنان حاملاً معه تسجيلات لمقابلات مع عائلات سورية محفوظة على قرص صلب، حين أُوقف عند نقطة فحص الجوازات. وفي صالة المعبر الحدودي، فوجئ باقتياده إلى زنزانة قذرة واتهامه بتهريب وثائق سرّية. وحكى أنه رأى على الجدران عدة تواريخ مكتوبة بخط اليد تعود جميعا إلى عام 2025. عرف مطر من تجربته في ظل حكم الأسد كيف يترك أثره. فمزّق علبة سجائر، ولفّ الرقاقة المعدنية الموجودة بداخلها على شكل رأس مدبب، وكتب "العدالة... حتى لو انهار العالم!".
"أنا الآن في سجن أكبر"
يتطلب تعهد الشرع ببناء سورية جديدة محاسبة من مكّنوا الأسد من ارتكاب جرائمه، وفي الوقت نفسه، إخراج البلاد من أتون حرب أهلية مدمّرة بدأت عام 2011 وانتهت بفرار الأسد إلى موسكو في ديسمبر/ كانون الأول 2024. وبينما كان الشرع يتعهد في منتصف ذلك الشهر بإغلاق السجون، كانت قواته تحتجز جنوداً من "جيش الأسد"، بينهم مجندون أجبروا على أداء الخدمة العسكرية من دون أن يكون لهم أي خيار في مكان أو طبيعة القتال. إضافة إلى بعض الضباط. وبحسب "رويترز"، يُحتجز هؤلاء جميعا في مراكز شهدت انتهاكات في الماضي، من دون وجود قوائم علنية بأسمائهم، كما لم تكشف الحكومة عن أماكن احتجازهم. ولم توضح أيضا عدد الجنود المعتقلين، أو ما إذا كانوا يعتبرون أسرى حرب، وهو وضع يمنحهم حماية قانونية خاصة. وحصل بعضهم على عفو بعد مفاوضات مع الحكومة، سواء عبر وساطاتٍ غير رسمية مع القيادات المجتمعية والناشطين ومشايخ الدين، أو مباشرة من خلال اللجنة العليا للحفاظ على السلم الأهلي وهي لجنة حكومية. ومن بين الجنود الذين أطلق سراحهم بتدخل من لجنة السلم الأهلي، مجند سابق في منتصف العشرينات من عمره طلب عدم الكشف عن هويته. وكان قد فرّ إلى العراق مع انهيار حكم الأسد، ثم عاد بعدما تعهدت القيادة السورية الجديدة باستجواب الجنود وإطلاق سراح من لم يرتكبوا جرائم منهم. وقال إنه كان من بين أوائل المعتقلين بعد سقوط الأسد، وقضى ستة أشهر في سجن عدرا بدمشق، وأُطلق سراحه في مايو.
تضم قوائم المحتجزين التي اطّلعت عليها "رويترز" أسماء جنود محتجزين في سجون دمشق وحمص وحماة وعفرين. ويقبع هؤلاء الجنود في السجون مع مدنيين محتجزين لأسباب أمنية، ومتهمين بجرائم جنائية. وشارك منظمو الزيارات العائلية هذه القوائم مع الوكالة. وذكر معتقل سابق في سجن عدرا في دمشق، وهو من بين أكبر السجون السورية، أن الزنازين كانت مكتظة إلى درجة أن السجناء اضطرّوا للنوم على جوانبهم. وقال المعتقل السابق (وهو سني) إنه لم يكن هناك دواء أو ماء ساخن للاستحمام. وحكى أن طعامه كان يقتصر على بضع حبات من الزيتون والتمر، وقطعة خبز واحدة يومياً. وخلال فترة احتجازه قرابة شهرين، فقد أكثر من 20 كيلوغراما من وزنه.
وذكرت الحكومة أن سجن عدرا يضم حاليا 3599 نزيلا، أي أكثر بقليل من طاقته الاستيعابية البالغة 3550 نزيلا، من بينهم 439 معتقلاً أمنياً. وجاء في بيانها عن جميع مرافق الاحتجاز "الواقع الحالي ليس هو الواقع المنشود، لكننا في فترة بناء مؤسّسات وإعادة تأهيل السجون ومع ذلك جرى تحسين الحالة الإنسانية بشكل كبير".
يصف معتقلون احتجزوا في المربع الأمني في كفر سوسة وفرع الأمن السياسي في المزة بدمشق بعضاً من أقسى الظروف. كان كلا السجنين تحت إدارة أفرع المخابرات التابعة لنظام الأسد خلال الحرب الأهلية. وقالت الحكومة لرويترز إنهما يستخدمان حالياً مراكز احتجاز مؤقتة للموقوفين إلى حين الانتهاء من الإجراءات القانونية.
وقال مطر، الذي زار سجن كفر سوسة في فبراير/ شباط، إن سجناء جددا بدأوا يشغلون أجزاء من السجن حينها، بعدما أُخلي عقب سقوط الأسد. وقال أحد المعتقلين، وهو علوي اعتقل مع شقيقه في منتصف مايو/ أيار، لـ"رويترز" إنه احتجز في كل من كفر سوسة، والمزّة الذي كان يستخدمه سابقاً فرع الأمن السياسي التابع لنظام الأسد. وأضاف أن شكوى أحد الجيران من الضوضاء في شارعهم أدّت إلى مداهمة منزل العائلة في مايو/ أيار من قوى الأمن الداخلي، التي لا تزال تعرف باسمها السابق، جهاز الأمن العام. واقتادهما الضباط بعد التحقق من هوياتهما التي تُشير إلى أن مسقط رأسهما هو اللاذقية، وهي منطقة ذات أغلبية علوية.
وفي المزّة، قال إن 30 رجلا كانوا يتقاسمون زنزانة واحدة. رأى أخاه هناك مرّة، عندما كان السجناء الجدد يحلقون رؤوسهم قسرا. أمر الحراس الرجال بألا يرفعوا أعينهم عن الأرض، وهي ممارسة كانت شائعة في عهد الأسد. يحكي "كانت تلك أول مرة في حياتي اتسجن. تجربة قاسيه جدا". وهناك خضع للاستجواب أسبوعاً وتعرّض للجلد بالأسلاك، واتهم بأنه من أنصار الأسد. وقال إنه نقل بعد ذلك إلى مركز احتجاز كفر سوسة الواقع أيضاً في دمشق. رأى أخاه هناك مرّة أخرى بوجه متورّم، ولم يتبادلا الحديث، لأنه غير مسموح للسجناء بالتحدّث إلى بعضهم. وهناك، استجوبه محققوه الجدد ساعات عن دينه. "هل تصلي؟ هل تعبد الله؟" لكنه قال إن الأمر كان أسوأ بالنسبة للجنود السابقين "كانوا يخرجون من الاستجواب مكسرين، غير قادرين على المشي". وبعد أسبوعين من اعتقاله، غطّى محقق عينيه، وأجبره أن يبصم على ورقة لا يراها، ثم جرى وضعه في سيارة. قال إنهم أنزلوه في أحد شوارع دمشق، وأعطوه أمراً أخيراً "لا تنظر خلفك ولا تنزع عصابة عينيك حتى نرحل". ولم ير الوثيقة ولا يعرف ما كتب فيها. كما أنه لا يعلم مصير شقيقه.
تربّح من الاعتقال
بقدر ما كان نظام الاحتجاز في عهد الأسد أداة لقمع المعارضة، كان أيضاً مصدراً لتحقيق أرباح هائلة للعاملين فيه من حرّاس وقضاة ومحامين. ووفقاً لتقرير للأمم المتحدة صدر عام 2024، كانت "الرشاوى الضخمة" عاملاً رئيسياً في ضمان إطلاق سراح المعتقلين، أو تسريع إجراءاتهم القانونية. وعلى الرغم من وعود الحكومة الجديدة بمكافحة الفساد، روت 14 عائلة وأربعة محامين تعرّضهم لابتزاز مالي مقابل إطلاق سراح محتجزين. في معظم الحالات، لم يكونوا على يقين من هوية الشخص الذي يتصل بهم عبر الهاتف طلبا للمال أو علاقته بعملية الاحتجاز.
تتفاوت المبالغ المطلوبة بشدة. على سبيل المثال، طلب من عائلات المعتقلين العاديين (من مجندين ومزارعين وعمّال) دفع مبالغ تتراوح بين 500 و15000 دولار. فيما قالت عائلات ضباط في الجيش، أو أشخاص كانوا يتمتعون بنفوذ في عهد الأسد أو يُعتقد أنهم ميسورون، إن المبالغ التي طلبت منهم كانت أكبر بكثير. وأفادت ست عائلات بأن الفدية التي طلبها الذي تواصل معهم تجاوزت مليار ليرة سورية (90 ألف دولار). وكان من بين المفقودين عدة أفراد من عائلة علوية واحدة اختفوا خلال عمليات القتل التي وقعت في مارس/ آذار على الساحل. بدأت محادثة عبر تطبيق "واتساب" بين شقيقة أحد الرجال وشخص ادّعى أنه من حرّاس السجن في نهاية مارس/ آذار.
سجان يطلب 3 آلاف دولار ويحدّد مهلة مقابل إطلاق سراح محتجزين
تظهر إحدى المحادثات، التي اطّلعت عليها "رويترز"، أن السجان طلب ثلاثة آلاف دولار نقدا مقابل إطلاق سراح جميع الرجال باستثناء واحد، زعم أنه توفي. حدّد السجان مهلة للدفع. عندما سألت العائلة عن أحوال الرجال قال السجان "شو تفتكري؟... تعذيب وشبح".
لم يكن لدى العائلة المال اللازم، ورفض السجان إخبارهم من الذي توفي من بين الرجال أو تقديم دليل على أن الآخرين على قيد الحياة. وكتب السجان "ما بقي تدقولي (تتواصلوا معي) إلا للمصاري... لمّا تكون جاهزة تعالوا إلى إدلب". تبادل السجّان والعائلة الرسائل النصّية حتى أكتوبر/ تشرين الأول، لكنهما لم يتوصّلا إلى حل. شاركت عائلة أخرى تسجيلاً صوتياً لمطالب بدفع مائة مليون ليرة سورية (ما يعادل تسعة آلاف دولار) مقابل ضابط في الجيش، يقولون إنه اعتقل في 31 ديسمبر/ كانون الأول 2024، في أثناء توجّهه لتسليم نفسه للحكومة الجديدة.
في ما يلي نص المحادثة بين أحد أقارب الضابط وسجانه المزعوم، الذي اتصل من هاتف الضابط المحتجز في ذلك اليوم: السجان: تجيب 100 مليون وتيجي. .. القريب: ايش؟ 100 مليون. من وين أجيب؟ حتى لو بعت هذا المنزل، مش هيحصل 100 مليون". ... السجان: اسمع، اسمع، اسمع، مش هتشوفه مرة تانية.
وقالت العائلة إنها لا تملك المال للدفع، ولم تسمع شيئاً منذ ذلك الحين. ويوضح محتجزون سابقون أن دفع المال لا يضمن السلامة. وقال مزارع (50 عاما) من قرية على مشارف حمص إنه تعرّض للاعتقال مرّتين على يد عناصر قوى الأمن الداخلي. في الأولى، في مارس/ آذار، توقفت شاحنتان صغيرتان تحملان شعار قوى الأمن الداخلي، نزل منهما رجال ملثّمون مسلحون يرتدون زياً أسود. حاصروا منزله، وعصبوا عينيه وعيني ابنه الشاب، واقتادوهما إلى مركز الشرطة المحلي لاستجوابهما بشأن من يملك أسلحة في القرية. وذكر أنهم أدخلوا رأسه وذراعيه وساقيه داخل إطار سيارة لشل حركته، وهي ممارسة تعرف باسم "الدولاب" بدأت في عهد الأسد. ثم انهالوا عليه وعلى ابنه بالضرب المبرّح. وأضاف أن محتجزيه كانوا يوجّهون له الإهانات طوال فترة اعتقاله، قائلين "أنتم كفار، أنتم خنازير". وأطلع المزارع "رويترز" على صور تظهر قدميه متورّمتين وآثار غرز على كاحليه. وأكّد أحد رجال الدين الذي يعمل وسيطاً مع قوات الأمن، صحة روايته. وقيل للمزارع إن دفع أربعة آلاف دولار سيضمن إطلاق سراحهما. ثم أطلق الضباط سراحه هو وابنه، ليجمعا المبلغ المطلوب. وقال إن السيارة التي جاءت لتحصيل المبلغ كانت تحمل شعار الأمن الداخلي، مثل السيارات التي كانت تقلّ الرجال الذين اعتقلوه. وفي اليوم التالي، وصلت سيارة أخرى، تحمل الشعار نفسه، لإعادته.
وللسوريين مصطلحاتهم الخاصة بالتعذيب، والتي تشكلت خلال خمسة عقود من الدكتاتورية واستمر استخدامها خلال 14 عاما من الحرب الأهلية. ووفقا لمعتقلين لدى الحكومة الجديدة، لا تزال هذه المصطلحات موجودة حتى بعد سقوط الأسد، ومنها "الدولاب" الذي تعرّض له المزارع. و"الشبح" وتعني تعليق المعتقل من معصميه. أما "حفل الاستقبال" فيحدُث عند الوصول إلى مراكز الاحتجاز، حيث يصطفّ الحراس في الممرّ، وينهالون بالضرب على المعتقلين الجدد. قال شاب علوي إنه اعتقل في التاسع من مارس/ آذار في اللاذقية بعدما خرج من منزله في أثناء "حملة قمع حكومية" ردا على "الانتفاضة" المؤيدة للأسد. اقتاده رجال يرتدون ملابس سوداء وسحبوا سترته فوق رأسه، ونزعوا حذاءه، وألقوه في سيارتهم للاشتباه في أنه كان يصوّر تحرّكات قوات الأمن بهاتفه. يحكي الشاب أن سوء معاملته بدأ فوراً "بحفل استقبال" في فرع الأمن العسكري بالمنطقة الساحلية "أمرني الجميع بأن أنبح كالكلب. وضربوني بمؤخرات البنادق، وبقبضاتهم وأحذيتهم. شعرت بأن حياتي انتهت". وأضاف في حديثه إلى "رويترز" أنه نقل من هناك إلى ثلاثة مراكز احتجاز أخرى في اللاذقية، جميعها كانت تستخدم خلال عهد الأسد، وكان لكل مركز منها حفل استقباله الخاص. وحكى أنه جرى تعليقه من كاحليه ووضع مسدّس في فمه. ثم أودع في حجز انفرادي بلا نوافذ 20 يوما. وذكر الشاب أنه خلال نقله مرّتين، فكر سجانوه في قتله وإلقاء جثته في البحر بسبب اكتظاظ الزنازين. وأخيراً، بعد أربعة أشهر أفرج عنه وهو حافي القدمين. إذ لم يمنحه محتجزوه حذاء آخر بدلاً من الذي تمزّق عند اعتقاله. وذكرت "رويترز" أنها لم تتمكن من التحقق من روايته بشكل مستقل، لكن ما قاله يتسق مع روايات عن سوء المعاملة، قال ثمانية معتقلين سابقين على الأقل إنهم تعرّضوا له أو شاهدوا آخرين يتعرّضون له. وكان الشاب من بين 53 معتقلا على الأقل تجاوزت مدة احتجازهم الحد القانوني البالغ 60 يوماً من دون إجراءات قضائية.
وقالت الحكومة إن "سياسة وزارة الداخلية متماشية مع القانون السوري" الذي يضمن، بحسب قولها، أن "لكل محتجز حقا أساسيا في الاستعانة بمحام"، وأضافت أن "عمليات التوقيف" تجري "ضمن الإطار القانوني الذي يتيح في بعض الحالات التوقيف خارج القضاء، منها حالات منع حدوث خطر وشيك أو اندلاع أعمال عنف". وفي أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني، نشرت وزارة الداخلية مدوّنة سلوك جديدة لكل العاملين بها تنصّ، من بين أمور أخرى، على "المحافظة على حقوق الإنسان وتوطيدها لكل الأشخاص، ومعاملة الجميع بكرامة، وفقا لما هو منصوصٌ عليه في الاتفاقيات الدولية"، و"صون كرامة الإنسان وحقوقه وحرّياته والامتناع عن جميع صور التعذيب"، مع السماح باستخدام القوة "في الحدود المقرّرة".
إرث الأسد
ذكرت "رويترز" أن ما لا يقل عن 11 شخصا توفوا في أثناء احتجازهم، وذلك من خلال التحدث مباشرة إلى عائلاتهم، ومن بينهم ثلاثة قالت الحكومة إن وفاتهم قيد التحقيق. ولم تقدم الحكومة العدد الإجمالي للوفيات في الحجز، ولم تعلق على نتائج الوكالة بشأنها. ومن بين هؤلاء محتجز في كفر سوسة يدعى ميلاد الفرخ. وهو تاجر مسيحي (59 عاما) قالت عائلته إنه اعتُقل في 24 أغسطس/ آب بتهم إخفاء أسلحة، والعمل تاجر سلاح، وبيع لحوم منتهية الصلاحية في محل جزارة يملكه. ووصفت عائلة الفرخ اعتقاله بأنه محاولة للضغط عليهم لدفع عشرة آلاف دولار إتاوة حماية.
بعد أسبوعين، تمكن أحد نزلاء كفر سوسة من الاتصال بالعائلة، لإبلاغها بأن الفرخ يحتضر من جرّاء التعذيب. وقالت العائلة إن اتصالا من مشرحة مستشفى جاء في اليوم التالي، التاسع من سبتمبر/ أيلول، لإبلاغها بوفاته. وألقي القبض على أحد الأقارب لمطالبته بتشريح الجثة قبل أن يتدخل مسؤول كبير في الأمن الداخلي ورجال دين، وخلص الأطباء إلى أن الفرخ توفي نتيجة ارتطام رأسه بالأرض إثر سقوطه وتم تسليم الجثة للعائلة. ولم تطلع عائلته بعد على تقرير التشريح أو أي وثيقة مكتوبة عن اعتقاله أو وفاته. واطلعت "رويترز" على صور لجثة الفرخ التُقطت في المشرحة أظهرت ما يبدو أنه جرح دموي في مؤخرة رأسه. وفي 25 سبتمبر/ أيلول، وبعدما قدّمت عائلة الفرخ التماسا للتحقيق في وفاته، أعلنت وزارة الداخلية أنها فتشت منزله وعثرت على قنبلة، وهو ما تنفيه العائلة مؤكّدة عدم وجود أي متفجرات في المنزل.
وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان 16 حالة وفاة في مراكز الاحتجاز
وأوردت "رويترز" أنها وثقت وفيات أخرى عند حاجز تفتيش في طرطوس وسجن هناك، إضافة إلى أماكن احتجاز أخرى، بينها مركز شرطة في دمشق قرب الجامع الأموي، أبلغت ثلاث عائلات الوكالة أنها لم تعلم بوفاة أفرادها إلا بعد دفن جثثهم. من بين هؤلاء ثلاثة رجال اعتُقلوا في حمص في يناير/ كانون الثاني، وهم جندي سابق وابناه، وكانا جنديين أيضا في عهد الأسد. وقالت عائلاتهم إنها رأتهم آخر مرّة وهم يُقتادون من عناصر الأمن الداخلي. وأبلغهم مكتب المحافظ أن الرجال في السجن المركزي بحمص. وخمسة أشهر، قالت الأسرة إنها كانت تتوجه بانتظام إلى السجن لتترك الطعام والدواء والملابس النظيفة، وتستلم ملابس متسخة قيل إنها تخصّ المعتقلين الثلاثة. وأضافت أنها دفعت آلاف الدولارات لوسطاء مجهولين، ولكن لم يُسمح لها برؤية الرجال.
وبعدما استبدّ بالأسرة اليأس، توجّه اثنان من الأقارب إلى مشرحة حمص، وأقنعا أحد الموظفين هناك بالاطلاع على صور رقمية لجثث مجهولة الهوية. حينها اكتشفت العائلة أن الرجال فارقوا الحياة منذ يناير/ كانون الثاني. وذكر اثنان من أفراد العائلة، في مقابلتين منفصلتين مع "رويترز"، أن تقارير التشريح المكتوبة أسفل الصور أشارت إلى أن الأب البالغ 62 عاما ذُبح. وأن أحد الابنين شوّه وجهه وسُلخ جلده، بينما قُتل الآخر برصاصة في وجهه. وأكدا أنه لم يُسمح لهما بالاحتفاظ بأي وثائق، بما في ذلك تقارير التشريح. ولم تتمكن "رويترز" من الحصول على الصور أو التقارير. ولم ترد مكاتب محافظي حمص أو طرطوس أو اللاذقية على طلبات للحصول على تعقيب.
تواصل الشبكة السورية لحقوق الإنسان، التي بدأت بتوثيق الانتهاكات في عهد الأسد عام 2011، إصدار تقارير شهرية عن الاعتقالات التعسفية. وخلال عام 2025، وثقت الشبكة 16 حالة وفاة في مراكز الاحتجاز في عهد الحكومة الجديدة. وفي أحدث تقرير لها، الصادر مطلع ديسمبر/ كانون الأول، دعت الشبكة القادة الجدد في سورية إلى تبنّي "قوانين تضع حدّاً لحقبة الاعتقالات التعسفية والاختفاء القسري المروّعة". كانت تجربة مطر في السجن في ظل الحكومة الجديدة قصيرة، لكنها مرهقة نفسياً. قال الصحافي والمخرج السينمائي إنه أُطلق سراحه في غضون 24 ساعة من نقطة التفتيش على الحدود مع لبنان من دون توجيه أي تهمة إليه.
وقالت الحكومة في ردها على "رويترز" إن "كل مشتبه به بالعبث بالوثائق والأدلة جرى التعامل معه وفق الأطر القانونية، وهذا ما جرى مع عامر مطر". ولا يملك مطر أي وثائق تثبت أنه احتُجز أو أُطلق سراحه. وقال مطر "سقط النظام، لكن من يحكمون اليوم قرّروا تحويل سجون الأسد إلى سجون جديدة. أقسم بالله، إنه أمرٌ لا يصدق". وأضاف أنه لم يسترد القرص الصلب الذي صادره أفراد الأمن عند نقطة التفتيش. ووصل إلى لبنان بعد عشرة أيام، ولم يعد إلى سورية منذ ذلك الحين.

Related News
تفجير حمص: «داعش» يتبنَّى... ودمشق تتوعَّد
aawsat
25 minutes ago
انفجارات قوية في العاصمة الأوكرانية كييف إثر هجوم صاروخي
aawsat
29 minutes ago
إسرائيل تعترف بـ«جمهورية أرض الصومال»
aawsat
49 minutes ago