Arab
شهد العالم المعاصر تحوّلات لغوية وثقافية كبرى تعكس تبدّلات عميقة في منظومات القيم والمعايير. ومن أبرز المفاهيم التي تسللت إلى الخطاب العربي في السنوات الأخيرة مصطلح "أوبن مايند" (Open Mind)، الذي انتقل من فضائه الفلسفي الغربي ليكتسب دلالات جديدة داخل السياق العربي.
ففي حين يشير المفهوم في أصله إلى الانفتاح الذهني وتقبّل الاختلاف، تحوّل في الثقافة العربية إلى رمز اجتماعي يُستخدم أحياناً لتوصيف المواقف والسلوكيات، ولا سيما عند الحديث عن النساء. ومن هنا تنبع أهمية هذا المصطلح بوصفه مدخلاً لفهم التحوّلات القيمية وموقع المرأة في مجتمع ما زال يتأرجح بين التقليد والحداثة.
الجذور الفلسفية والفكرية للمصطلح
ظهر مفهوم الانفتاح الذهني (Open-mindedness) في الفلسفة الحديثة، خصوصاً مع جون لوك وفرنسيس بيكون في القرنين السابع عشر والثامن عشر، حيث ارتبط بفكرة تحرير العقل من المعتقدات المسبقة، والانفتاح على التجربة والعقل النقدي. وفي القرن العشرين، توسّع استخدام المفهوم داخل الفكر الليبرالي الغربي ليصبح قيمة أخلاقية واجتماعية ترتبط بالتعددية والتسامح واحترام الآخر. فـ"العقل المنفتح" لم يعد مجرد صفة معرفية، بل بات مؤشّراً على النضج الإنساني والانتماء إلى الحداثة الثقافية.
انتقال المصطلح إلى الثقافة العربية
مع تسارع العولمة وتكثّف التبادل الثقافي عبر الإعلام والإنترنت، انتقل مصطلح "أوبن مايند" إلى الفضاء العربي، بداية في أوساط الشباب المتعلّم، ثم إلى المجال العام عبر وسائل التواصل الاجتماعي. غير أن هذا الانتقال لم يكن حيادياً، إذ خضع المصطلح لعملية تحوير دلالي عميقة. فبدل أن يحتفظ بمعناه المعرفي الأصلي، اكتسب حمولة اجتماعية وأخلاقية جديدة، جعلته أحياناً مرادفاً للجرأة والتحرّر، وأحياناً أخرى دالاً على الانفلات من الضوابط الاجتماعية.
"أوبن مايند" كرمز جندري
يتمثّل أحد أبرز تحوّلات المصطلح في السياق العربي في ارتباطه بالمرأة. فقد بات يُستخدم في الخطاب اليومي لوصف النساء اللواتي يتحدّين الأعراف السائدة في الملبس أو الرأي أو نمط الحياة. وبهذا المعنى، أصبح "أوبن مايند" مفهوماً جندرياً بامتياز، يُستدعى لتقييم سلوك المرأة أو الحكم على مدى "تحرّرها".
في الخطاب التقدّمي، يُنظر إلى "العقل المنفتح" بوصفه دليلاً على الاستقلالية والوعي النقدي، بينما يراه الخطاب المحافظ مؤشّراً على التمرّد أو التفلّت الأخلاقي. ويعكس هذا التباين صراعاً مستمراً بين رؤيتين للعالم: إحداهما تسعى إلى تكريس الحرية الفردية والمساواة، والأخرى تتمسّك بمنظومة القيم التقليدية التي تضبط الجسد والهوية والسلوك.
تحوّل "أوبن مايند" إلى علامة تصنيفية في الخطاب الشعبي، تُستخدم لوصف أنماط معيّنة من السلوك
من المفهوم المعرفي إلى العلامة الاجتماعية
يمكن رصد مسار تطوّر المصطلح داخل الثقافة العربية عبر مرحلتين واضحتين:
المرحلة الأولى – المعنى المعرفي:
استخدمه بعض المثقفين والمفكرين للإشارة إلى التفكير النقدي والانفتاح على الحوار وقبول الاختلاف.
المرحلة الثانية – المعنى الاجتماعي الرمزي:
مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، تحوّل "أوبن مايند" إلى علامة تصنيفية في الخطاب الشعبي، تُستخدم لوصف أنماط معيّنة من السلوك. فأصبحت عبارات مثل "هي أوبن مايند" أو "هو مش أوبن مايند كفاية" تحمل حكماً قيمياً ضمنياً يعكس معايير المجتمع في تقييم الحرية والسلوك. في هذه المرحلة، خرج المصطلح من حياده العلمي ليغدو أداة لتوزيع الشرعية الاجتماعية بين "المقبول" و"المرفوض"، لا سيما في ما يتعلّق بالمرأة.
دلالاته في الخطاب النسوي
من منظور دراسات الجندر، يمثّل مصطلح "أوبن مايند" نموذجاً لما يصفه منظّرو الثقافة بـ"العلامة المتنازع عليها"، أي المفهوم الذي يُعاد إنتاج معناه عبر صراعات السلطة والدلالة. فالمرأة التي تُوصَف بأنها "أوبن مايند" تتحوّل إلى ساحة رمزية لتقاطع خطابات متعارضة: خطاب يراها صاحبة وعي فردي واستقلال فكري، وخطاب آخر يسعى إلى إعادة تأطيرها ضمن حدود المألوف الاجتماعي. وهكذا يكشف المصطلح عن تسييس الجسد الأنثوي وربطه بمفاهيم الحداثة والانفتاح في مجتمعات تُعيد إنتاج سلطتها الأخلاقية عبر اللغة ذاتها.
إن قراءة مصطلح "أوبن مايند" في السياق العربي تكشف مفارقة جوهرية؛ فبينما يفترض المفهوم الأصلي انفتاحاً فكرياً يتيح التعددية والتسامح، يُستخدم محلياً أحياناً بما هو آلية جديدة للوصم أو لتكريس الفوارق الجندرية. لذلك، تبرز ضرورة استعادة جوهر المصطلح الأصلي وتحريره من الاستخدامات السطحية التي تحوّله إلى أداة للتمييز الاجتماعي.
فالانفتاح الحقيقي لا يُقاس بجرأة المظهر أو خرق الأعراف، بل بقدرة الفرد، رجلاً كان أم امرأة، على التفكير الحر، وقبول الاختلاف، وممارسة النقد دون خوف. ويختزل مصطلح "أوبن مايند" مساراً طويلاً من التحوّلات الفكرية والاجتماعية؛ فهو ليس مجرد استعارة لغوية، بل مرآة تعكس علاقة الثقافة العربية بذاتها وبالآخر، ولا سيما علاقتها بمفاهيم الحرية والجندر والهوية.
وفي نهاية المطاف، تكمن أهمية هذا المفهوم في قدرته على إثارة الأسئلة أكثر من تقديم الإجابات: هل الانفتاح الذهني قيمة معرفية أم مظهر اجتماعي؟ هل هو فضيلة فردية أم علامة طبقية وجندرية؟ تبقى هذه الأسئلة مفتوحة ما دام المجتمع العربي يعيش حالة تفاوض دائم بين إرثه الثقافي ومتطلبات الحداثة المتسارعة.
Related News
تفجير حمص: «داعش» يتبنَّى... ودمشق تتوعَّد
aawsat
25 minutes ago
انفجارات قوية في العاصمة الأوكرانية كييف إثر هجوم صاروخي
aawsat
29 minutes ago
إسرائيل تعترف بـ«جمهورية أرض الصومال»
aawsat
49 minutes ago