Arab
لم يعد العمل من المنزل مجرّد استجابة ظرفية فرضتها جائحة كوفيد-19، بل تحوّل إلى نمط عمل راسخ يعيد تشكيل سوق العمل الأميركي، ويطرح أسئلة جديدة حول الفئات الأكثر استفادة منه، والوظائف الأكثر قابلية للاستمرار عن بُعد. وبينما يتركز النقاش العام غالبًا على العاملين في قطاع التكنولوجيا أو أصحاب الشهادات العليا، تكشف البيانات الرسمية صورة أكثر تعقيدًا، تُظهر أن كبار السن والأميركيين من ذوي الإعاقة يقفون في صدارة الفئات الأكثر احتمالًا للعمل من المنزل، وإن بشروط ومسارات مختلفة. فماذا تقول الأرقام عن طبيعة هذه الوظائف؟ وكيف تغيّر المشهد خلال السنوات الأخيرة؟
من هم الأكثر عملًا من المنزل؟
وفقًا لتحليل بيانات "مسح السكان الحالي" طويل الأمد الصادر عن مكتب الإحصاء الأميركي، فإن العمال الأكبر سنًا والعمال من ذوي الإعاقة هم من بين الفئات الأكثر احتمالًا للعمل من المنزل إذا كانوا يعملون أصلًا. ولا ينافسهم في ذلك سوى العمال الحاصلين على شهادات جامعية، والعمال الأميركيين من أصول آسيوية، وهما فئتان يوجد بينهما قدر كبير من التداخل. وتُظهر بيانات العمل من المنزل أن احتمالات العمل بنظام هجين، أي تقسيم الوقت بين المكتب والمنزل، تنخفض مع التقدم في العمر، في حين يسير العمل عن بُعد بالكامل في الاتجاه المعاكس. فالعمال الأكبر سنًا، ولا سيما من بلغوا سن التقاعد، هم الأكثر احتمالًا للعمل من المنزل مقارنة بأي فئة أخرى.
وبالطبع، يعود ذلك إلى العاملين بدوام جزئي بعد التقاعد. فجميع الفئات تميل إلى تقليص ساعات العمل عند بلوغ الستينات، غير أن العاملين عن بُعد بالكامل يُظهرون التحوّل الأوضح. ويُرجّح أن كثيرين منهم كانوا يعملون سابقًا في مواقع العمل، ثم واصلوا تقديم خبراتهم من أماكن سكنهم بعد التقاعد. ويتميّز هؤلاء العمال بكونهم أكثر احتمالًا لحيازة شهادات عليا، كما أنهم أكثر ميلًا للعمل لحسابهم الخاص. ويُعتقد أن ذلك يعود إلى إدارتهم مشاريع صغيرة أسسوها خلال سنوات عملهم، أو عملهم مستشارين أو متعاقدين في مجالاتهم السابقة، أو إدارتهم لأعمال جانبية. كما أن بعضهم يعمل في الزراعة، وهي مهنة آخذة في التراجع، لكنها تُعد تقنيًا من الأعمال المنزلية في كثير من الحالات.
مشهد يتغيّر بسرعة
بحسب صحيفة واشنطن بوست، لا تتوافر بيانات إلا منذ أواخر عام 2022، حين أضاف مكتب الإحصاء الأميركي أسئلة عامة عن العمل من المنزل إلى مسحه الشهري الرئيسي، تطويرًا لبيانات بدأ بجمعها خلال جائحة كورونا. ورغم قصر هذه الفترة، رُصد تحوّل يُرجّح أن يكون استثنائيًا من حيث الحجم. خلال معظم هذه الفترة، شكّل موظفو الحكومة الفيدرالية قصة نجاح في العمل عن بُعد، إذ مارسوا هذا النمط بوتيرة أعلى بكثير من نظرائهم في القطاع الخاص، ولا سيما العمل الهجين.
غير أن هذا الواقع تغيّر في مطلع عام 2025، مع عودة دونالد ترامب إلى الرئاسة لولاية ثانية، وما تبع ذلك من تغييرات واسعة في الجهاز الفيدرالي. ونتيجة لذلك، أصبح الموظفون الفيدراليون اليوم من بين الأقل احتمالًا للعمل عن بُعد أو بنظام هجين، ولا يسبقهم في ذلك سوى موظفي الحكومات المحلية. ومع ذلك، ونظرًا إلى أن الحكومة الفيدرالية تمثل نسبة محدودة من إجمالي العمالة، فإن المشهد العام للعمل عن بُعد لم يتغيّر جذريًا في السنوات الأخيرة، ما يسمح باستخدام بيانات ممتدة لتحليل فئات ضيقة، مثل العمال الأكبر سنًا أو ذوي الإعاقة الذين لا يذهبون إلى المكتب.
ما أبرز وظائف العمل من المنزل؟
تُظهر البيانات أن أبرز الوظائف التي يعمل معظم شاغليها عن بُعد بالكامل تشمل: مطوري الويب، والكتّاب، والمحررين. كما تقترب وظائف أخرى من هذا النمط، مثل الكتّاب التقنيين، ومسؤولي قواعد البيانات، ووكلاء السفر. لكن فرص العمل عن بُعد تختلف باختلاف العمر. ففي أوائل العشرينات، تُعد وظائف خدمة العملاء الخيار الأرجح. وفي العشرينات والثلاثينات، يبرز تطوير البرمجيات. أما لمن تجاوزوا الأربعين، فتتركز أعلى احتمالات العمل من المنزل في الوظائف الإدارية، وهي فئة تشمل عددًا كبيرًا من العاملين لحسابهم الخاص وأصحاب المشاريع الصغيرة. وفي معظم المهن، يكون العمال الأكبر سنًا أكثر احتمالًا للحصول على امتيازات العمل عن بُعد، باستثناء بعض الوظائف التقنية الثقيلة مثل تصميم الويب، وتطوير الويب، واختبار البرمجيات.
أين يتركّز كبار السن مهنيًا؟
عند النظر إلى الوظائف التي تستقطب أكبر عدد من العاملين عن بُعد، بغض النظر عن نسبة العمل الحضوري فيها، يتبيّن أن العمال الأكبر سنًا يتركزون في المناصب العليا: مديرون، محللو إدارة، رؤساء تنفيذيون، ومحامون. في المقابل، يميل العمال الأصغر سنًا إلى التمركز في وظائف مثل تطوير البرمجيات أو خدمة العملاء. غير أن هذا الاستنتاج لا ينسجم تمامًا مع جوهر السؤال، إذ يوحي بأن العمل من المنزل في سن متقدمة يتطلب مسارًا مهنيًا طويلًا وشهادات عليا. ورغم صحة ذلك، فإنه لا يقدم إجابة عملية لمن يبحث عن فرصة عمل اليوم.
ماذا عن ذوي الإعاقة ومن دون شهادات جامعية؟
تكشف البيانات مؤشرات إضافية عند تحليل أوضاع العمال من ذوي الإعاقة، ولا سيما من يعانون صعوبات في الحركة أو العناية الذاتية. ففي معظم المؤشرات، تتشابه أنماطهم مع أقرانهم من غير ذوي الإعاقة، لكن أبرز وظائفهم في العمل الكامل عن بُعد تشمل: خدمة العملاء، ومسك الدفاتر والمحاسبة، والعمل في القطاع العقاري. ويعود ذلك جزئيًا إلى صغر أعمارهم، وكذلك إلى تنوّع مستوياتهم التعليمية مقارنة بالعمال الأكبر سنًا الذين يعملون من المنزل، وغالبًا ما يكونون عاليي التأهيل.
وعند العودة إلى فئة من بلغوا سن التقاعد من دون شهادات جامعية أو عليا، تظل الوظائف الإدارية في الصدارة، لكن وظائف مثل مسك الدفاتر، وخدمة العملاء، والعقارات تبرز بقوة، إلى جانب فرص أخرى مثل إدارة العقارات، والمساعدة التنفيذية، والمبيعات. كما تظهر بعض الحالات غير المتوقعة، مثل الزراعة. ومن اللافت أيضًا بروز وظائف مقدمي الرعاية الشخصية والعاملين في رعاية الأطفال، وهي وظائف لا تُعد عملًا من المنزل إلا في حالات العمل بنظام الإقامة أو ضمن مشاريع منزلية.
تُظهر البيانات أن العمل من المنزل لا يرتبط فقط بالمستوى التعليمي أو بالمناصب العليا، بل يتقاطع أيضًا مع العمر، والحالة الصحية، وطبيعة المسار المهني. فبينما يستفيد كبار السن من خبراتهم المتراكمة أو من العمل الحر بعد التقاعد، يجد كثير من الأميركيين من ذوي الإعاقة فرصًا عملية في وظائف خدمية وإدارية قابلة للتنفيذ عن بُعد. وفي ظل التحولات المتسارعة في سوق العمل، يبدو أن العمل من المنزل بات خيارًا غير متكافئ، تحكمه بنية الوظائف أكثر مما تحكمه التكنولوجيا وحدها، لكنه يظل نافذة حقيقية لفئات غالبًا ما تُستبعد من النقاش العام حول مستقبل العمل.

Related News
تفجير حمص: «داعش» يتبنَّى... ودمشق تتوعَّد
aawsat
20 minutes ago
انفجارات قوية في العاصمة الأوكرانية كييف إثر هجوم صاروخي
aawsat
24 minutes ago
إسرائيل تعترف بـ«جمهورية أرض الصومال»
aawsat
44 minutes ago