Arab
استقبل السودان منذ سنوات بعثات وقوات حفظ سلام دولية، سواء من الأمم المتحدة أو الاتحاد الأفريقي، لمساعدته على تخطي الطريق الصعب من الصراع إلى السلام، لكنها اصطدمت جميعها بالواقع السوداني المتقلّب وعدم الاستقرار السياسي والاتهامات بالانحياز، وحتى الهجمات المميتة ضد أفراد هذه البعثات وقوات حفظ السلام التي واجهت تحديات غير مسبوقة في بلد ما زالت تمزقه الصراعات المسلحة، في سبيل تحقيق حفظ السلام.
آخر بعثات حفظ السلام هي بعثة "يونيسفا"، ومقرها في منطقة أبيي المتنازع عليها بين السودان وجنوب السودان، والتي تعرضت، السبت الماضي، لهجوم بطائرة مسيّرة استهدف قاعدتها اللوجستية بمدينة كادوقلي، في ولاية جنوب كردفان، جنوب وسط السودان، ما تسبب في مقتل ستة من جنودها وإصابة ثمانية آخرين. وقد أعلنت البعثة على إثر الهجوم، أول من أمس الجمعة، إخلاء قاعدتها في المدينة. خلال الحرب التي اندلعت بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع المنشقة عنه، في 15 إبريل/ نيسان 2023، وجدت الأمم المتحدة نفسها في قلب صراع سوداني جديد أكثر ضراوة هذه المرة، إذ تسببت الحرب في نزوح 14.3 مليون شخص داخلياً، واضطرار نحو أربعة ملايين آخرين للفرار من السودان إلى البلدان المجاورة بحسب بيانات منظمة الهجرة الدولية.
إخلاء قاعدة "يونيسفا"
تأسست بعثة القوة الأمنية المؤقتة في أبيي "يونيسفا" بعد انفصال جنوب السودان في 2011، وتزايد التوترات بين البلدين حول المنطقة واندلاع مواجهات قبلية. فقد استجاب مجلس الأمن بموجب قراره رقم 1990 بتاريخ 27 يونيو/حزيران 2011، للوضع العاجل في المنطقة، وقرر تأسيس بعثة القوة المؤقتة في أبيي، والتي أصبحت منزوعة من السلاح. وكلفت البعثة بمراقبة الحدود الملتهبة بين الشمال والجنوب وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، كما خُوِلَت لها سلطة استخدام القوة في حماية المدنيين والعاملين في المجالات الإنسانية في أبيي.
تتخذ "يونيسفا" من أبيي المتنازع عليها بين الخرطوم وجوبا مقراً رئيسياً لها
وتتخذ "يونيسفا" من بلدة أبيي المتنازع عليها بين الخرطوم وجوبا مقرّاً رئيسياً لها، فيما تتمثل مهتمها في نزع السلاح ورصد السلام في منطقة أبيي. تضم البعثة 3550 عسكرياً، و640 شرطياً، وتعتبر أكبر عشرة بلدان مساهمة بعسكريين في القوة (حتى أكتوبر/ تشرين الأول 2025) هي غانا، الهند، باكستان، بنغلادش، الصين، فيتنام، نيجيريا، نيبال، البرازيل، زيمبابوي. وأكبر عشرة مساهمين في الشرطة هي الأردن، جزر فيجي، غانا، إندونيسيا، كينيا، نيبال، نيجيريا، رواندا، تنزانيا، زامبيا.
ويوم السبت الماضي تعرضت قاعدة "يونيسفا" اللوجستية في مدينة كادوقلي بولاية جنوب كردفان السودانية لاستهداف مجهول المصدر بطائرة مسيّرة. وبينما نفى الجيش السوداني والدعم السريع مسؤوليتهما عنه وتبادلا الاتهامات بشن الهجوم الذي أدى إلى مقتل ستة من جنود من قوات حفظ السلام وإصابة نحو ثمانية آخرين جميعهم من دولة بنغلادش، أعلنت البعثة إخلاء قاعدتها في المدينة. وقالت في بيان أول من أمس الجمعة إنها أجرت تقييماً شاملاً للوضع الأمني السائد في كادوقلي، والذي أعاق قدرة الأمم المتحدة على العمل في المنطقة، لافتةً إلى أنها ستعيد النظر في استئناف أنشطتها في كادوقلي عندما تسمح الظروف بذلك.
وكانت البعثة قد واجهت تحدياً كبيراً بعد اندلاع الحرب الأخيرة في السودان، إذ وجدت نفسها وسط صراع عسكري وانتشار متواصل لقوات ومليشيات في مناطق مهمتها في أبيي، ما دعا مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة لشؤون أفريقيا مارثا بوبي إلى الدعوة لانسحاب جميع القوات المسلحة والجهات المسلحة الأخرى من أبيي بشكل فوري، بما يتوافق مع وضعها كمنطقة خالية من الأسلحة. وأكدت وجود تحديات كبيرة قائمة لحل وضع أبيي بشكل نهائي. وقالت بوبي في بيان أمام مجلس الأمن، يوم الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي بشأن عمل "يونيسفا"، إن البعثة واصلت توثيق تزايد وجود عناصر من قوات الدعم السريع في المنطقة، ما أدى إلى "ارتفاع مستويات الجريمة".
وأضافت أن قوات الدعم السريع وجهات مسلحة أخرى أقامت نقاط تفتيش غير قانونية في شمال أبيي، مشيرةً أيضاً إلى استمرار وجود قوات الأمن التابعة لجنوب السودان في جنوب المنطقة. ولفتت إلى أن الديناميكيات الإقليمية ووجود قوات الدعم السريع قد زادا من تعقيد العلاقات بين المجتمعات في أبيي، إلا أن انخفاض العنف بين القبائل "ظلّ قائماً إلى حد كبير". وأكدت أن العملية السياسية بين السودان وجنوب السودان بشأن أبيي وقضايا الحدود لا تزال متوقفةً منذ اندلاع الصراع في السودان، مشددةً على ضرورة "أن ندرك تماماً أنه مع قلة التمويل المتاح، وتقلص الوجود الأممي، تنتظرنا أيام صعبة لبناء السلام في أبيي".
تجارب قوات حفظ السلام الأخرى
ولم تكن "يونيسفا" حالة مختلفة عن بقية البعثات والقوات الأممية في السودان، إذ شهد عام 2003 اندلاع حرب أهلية بين نظام الرئيس المخلوع عمر البشير وحركات مسلحة كوّنها أبناء إقليم دارفور، غربي البلاد، بسبب التهميش، وأدت هذه الحرب إلى مقتل الآلاف من سكان دارفور ونزوح ما يقارب المليوني نسمة، بحسب الأمم المتحدة. وقد دفع ذلك الاتحاد الأفريقي للتدخل بداية في الوساطة سعياً للتوصل إلى اتفاق سياسي يوقف أعمال العنف، فيما أسفرت هذه الجهود عن توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار في نجامينا، عاصمة تشاد، في الثامن من إبريل 2004، وبالتالي إتاحة الفرصة للاتحاد لإرسال قوات حفظ سلام أفريقية.
وأُنشئت بعثة حفظ السلام الأفريقية في السودان المعروفة باسم "أميس"، بموجب قرار من مجلس السلم والأمن الأفريقي في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2004، نُشر بموجبها نحو سبعة آلاف جندي، معظمهم من نيجيريا ورواندا. وكان من المهام الأساسية لبعثة حفظ السلام هذه، حماية المدنيين، لكنها واجهت صعوبات في الوصول إلى المناطق المتأزمة، فضلاً عن نقص الإمدادات والمعدات، وضعف تنسيقها مع حكومة الخرطوم وعدم كفاية أعدادها، ما أدى لمواجهتها صعوبات لوجستية وعملياتية. من جهة أخرى، فبسبب انتشار السلاح والمليشيات استُهدفت البعثة أكثر من مرة.
ومع استمرار الصراع (حتى 2016) أصدر مجلس الأمن الدولي بالإجماع، في 31 يوليو/تموز 2007، القرار رقم 1769 المُنشئ للعملية المختلطة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور، والمعروفة بـ"يوناميد". بموجب القرار، تحوّلت البعثة إلى بعثة "هجين" لقوات حفظ السلام بين الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة لأول مرة في تاريخ المنظمتين، إذ كُلِّفت بدعم تنفيذ اتفاق سلام دارفور (اتفاق الدوحة 2011 في وقت لاحق)، ومراقبة اتفاقيات وقف إطلاق النار، وحماية المدنيين والعاملين في المجال الإنساني، وتعزيز سيادة القانون وحقوق الإنسان، ونزع سلاح مليشيات الجنجويد (في إقليم دارفور). وتشكّلت "يوناميد" في البداية من 19.555 عسكرياً ونحو أربعة آلاف شرطي. رفض نظام البشير حينها استقبال البعثة، وعقب جهود دبلوماسية حثيثة بذلها الأمين العام السابق للأمم المتحدة، بان كي مون، وزعماء دوليون آخرون وافق السودان على استقبال القوات في يونيو 2007. وكانت رئاسة البعثة في مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، فيما انتشرت قواتها في 35 موقعاً موزعة عبر سائر أنحاء ولايات دارفور الخمس.
كانت بعثة "يوناميد" الأممية الأفريقية، أكبر بعثة من نوعها في العالم
كذلك واجهت البعثة الكثير من المعوقات اللوجستية والأمنية، بدءاً من تضاريس المنطقة الوعرة والقاسية، والعجز في وسائل النقل الأساسية والمعدات والبنى التحتية ووسائل ومعدات الطيران. كما تعرضت مقراتها وقواتها لهجمات متعددة، فيما اتهمت من قبل بعض الكيانات السياسية السودانية بالعجز عن حماية المدنيين ووضع حد لانتشار السلاح والمليشيات. فقدت البعثة نتيجة الاعتداءات عدداً من جنودها، وبحسب إحصاءات الأمم المتحدة بلغت الوفيات في القوة لأسباب مختلفة 289 حالة وفاة. وقد كانت "يوناميد" أكبر بعثة أممية من نوعها في العالم، وتسيّر يومياً 160 دورية على امتداد إقليم دارفور، وقد شاركت فيها بقوات عسكرية، 33 دولة.
في عام 2014 احتدم الخلاف بين البعثة وحكومة البشير، خصوصاً بعد محاولات البعثة التحقيق في مزاعم بوقوع حالات اغتصاب جماعي ارتكبها جنود سودانيون في بلدة تابت بشمال دارفور. وطلبت حكومة السودان من مجلس الأمن مغادرة البعثة، وفي 29 يونيو 2017 اعتمد مجلس الأمن القرار رقم 2363، الذي بالإضافة إلى تجديد تفويض البعثة حتى 30 يونيو 2018، نص على تخفيض قوات الشرطة والجنود في خلال السنة التالية على مرحلتين، مع المراقبة الدقيقة للوضع على الأرض. وكان يوم 31 ديسمبر/ كانون الأول 2020 هو اليوم الأخير للبعثة في السودان، بعد قرار مجلس الأمن رقم 2559، في 22 ديسمبر 2020، الذي أنهى تفويض البعثة في دارفور، تلبية لطلب الحكومة السودانية.
وعقب الثورة السودانية التي انطلقت في 2018، وأطاحت نظام عمر البشير، تشكّلت في 2019 حكومة انتقالية مشتركة بين المدنيين والعسكريين. وفي يناير/ كانون الثاني 2020 عقب تقلده منصبه رئيساً للوزراء في السودان، طلب عبد الله حمدوك من الأمم المتحدة تكوين بعثة سياسية تحت الفصل السادس (يحق للمجلس دعوة الأطراف لتسوية نزاعاتهم، أو التحقيق في أي نزاع، أو التوصية بإجراءات أو طرق تسوية ملائمة)، لمساعدة حكومته الانتقالية في عملية التحول الديمقراطي ودعم عملية السلام. ووافق مجلس الأمن في 25 إبريل 2020 على الطلب، بتعيين "بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لمساعدة السودان خلال الفترة الانتقالية" المعروفة باسم "يونيتامس". وفي يناير 2021 أعلن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس تعيين الألماني فولكر بيرتس ممثلاً خاصاً له في السودان، ورئيساً لبعثة "يونيتامس". وضمت البعثة 269 موظفاً دولياً من خلال ثمانية مكاتب في إقليم دارفور وإقليم كردفان وولاية النيل الأزرق (جنوب)، وولاية كسلا وبورتسودان (شرق).
كانت أولى العقبات التي واجهتها البعثة الجديدة تعطل الفترة الانتقالية في السودان، بسبب الانقلاب العسكري الذي نفذه الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، إذ انخرطت الأمم المتحدة بعد الانقلاب في عملية الوساطة بين الأطراف. لكن الجهود فشلت في التوفيق بين المدنيين والعسكريين لاستكمال المرحلة الانتقالية، وبدأت الخلافات بين "يونيتامس" وقادة الانقلاب العسكري الذي سيطروا على كامل السلطة.
طلبت الخرطوم في 2023 إنهاء تفويض "يونيتامس" التي عُيّنت خلال الفترة الانتقالية
ثم اندلعت الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع في 15 إبريل 2023، وطلبت الحكومة التي يقودها الجيش من غوتيريس إنهاء تفويض "يونيتامس"، قائلة في رسالة إليه إن أداء البعثة لم يُحقّق الهدف المرجوّ منه، وأصبحت لا تُحقِّق تطلُّعات شعب السودان وحكومته. في الأول من ديسمبر 2023، صوَّت مجلس الأمن على قرار يُنْهِي مهمة البعثة، ويوقف عملياتها داخل السودان، بدءاً من الرابع من ديسمبر 2023، وبدء تصفية البعثة في مارس 2024، وذلك بموجب القرار رقم 2715. صوّتت 14 دولةً لصالح القرار، حينها، فيما امتنعت روسيا عن التصويت. وعقب إنهاء مهمة "يونيتامس"، عيّن الأمين العام للأمم المتحدة، في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 الدبلوماسي الجزائري رمطان لعمامرة مبعوثاً شخصياً له إلى السودان، على أن يكون مقره خارج البلاد. لكنه يواجه أيضاً اتهامات حالياً من قبل التحالفات السياسية المعارضة، بالانحياز إلى الحكومة التي يقودها الجيش السوداني.

Related News
تفجير حمص: «داعش» يتبنَّى... ودمشق تتوعَّد
aawsat
26 minutes ago
انفجارات قوية في العاصمة الأوكرانية كييف إثر هجوم صاروخي
aawsat
30 minutes ago
إسرائيل تعترف بـ«جمهورية أرض الصومال»
aawsat
50 minutes ago