أعادني إعلان مختبرات كورتيكال (Cortical Labs) مؤخرًا عن إطلاق أول حاسوب حيوي تجاري (CL1) ثلاثين عامًا إلى الوراء، إلى منتصف التسعينيات ومقاعد الدراسة الجامعية، عندما أسرني مفهوم ليونارد أدلمان الثوري الذي أطلقه عام 1994 وسعى من خلاله لاستغلال الخصائص البيولوجية للحمض النووي لإجراء العمليات الحسابية (DNA Computing)، فذكرني بهوسي بالموضوع لفترة قصيرة آنذاك، ولكنني فضلت حينها التركيز على الصاعد الآخر "الإنترنت"، إلى أن دفعتني رياح الأقدار بعيدًا عن عوالم التكنولوجيا نحو عوالم الاستشارات الإدارية والتنمية الدولية، وتناسيت ولو لحين تساؤلي الأول: هل يمكن للحوسبة الحيوية أن تقودنا إلى آلة واعية؟
لطالما دفعتني أعمال وأبحاث مختبرات كورتيكال الأسترالية وزميلتها (Final Spark) السويسرية وغيرها للربط بين أبحاث الحوسبة الحيوية وإمكانية صنع آلة مدركة، ربما لأن هذه الأبحاث تعتمد على النظم البيولوجية التي تشكل جوهر وعينا البشري. فإذا كنا نحاول محاكاة الدماغ البشري باستخدام الخلايا العصبية الحية، فهل يمكن أن يكون الوعي الاصطناعي مجرد مسألة وقت؟ وبالتوازي يدفعني تأثري بأعمال الخيال العلمي في صغري، وخصوصًا الكائنات السايبورغية مثل (The Borg) للتساؤل: هل هذه مجرد خطوة أخرى نحو كائنات سايبورغية كالتي طالما تصورناها في أفلام الخيال العلمي وفتح الباب أمام أشكال أخرى من الوعي، كالوعي الجماعي في قفير البورغ؟
تعتمد تقنية كورتيكال الرائدة (DishBrain) على خلايا عصبية حية تُزرع على شريحة سليكون، لتُكوّن هذه الخلايا مجموعة من الروابط القادرة على الاستجابة للمحفزات الكهربائية وأداء مهام حسابية، مما يخلق نظامًا هجينًا يجمع بين البيولوجيا والتكنولوجيا، حيث تستخدم الخلايا العصبية الحية المشتقة من الخلايا الجذعية أو غيرها من المصادر البيولوجية، والتي تساعد في إنشاء نظام تقوم فيه الخلايا العصبية البيولوجية بأداء المهام بشكل يحاكي خلايا عمل الدماغ، ويتم ربط هذه الخلايا العصبية بواجهة حاسوبية تُوفّر تغذية راجعة آنية، بشكل يُمكّنها من التعلّم والتكيّف، ويُمكّن النظام من تسخير كفاءة وقابلية الخلايا العصبية لأداء مهام مثل التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي، مما قد يوفر نموذجًا جديدًا للحوسبة أكثر كفاءة في استخدام الطاقة وقادرًا على التعلم بطرق لا تستطيع الأنظمة التقليدية القائمة على السليكون القيام بها في مجالات محددة.
وبغض النظر عن النهج أكان الحوسبة الكمومية أو العصبية أو الحيوية أو البصرية أو غيرها هل بتنا على أعتاب إيجاد الآلة المدركة؟
قبل محاولة الإجابة على هذا السؤال علينا أن نرى إن كنا نحن أنفسنا كبشر مدركين لطبيعة وأسرار وعينا الخاص، فالوعي البشري عبارة عن حالة إدراكية شديدة التعقيد تتشكل من القدرة على الإدراك والتفكير والتفاعل مع الذات والعالم الخارجي. فالوعي البشري ليس مجرد نوع من الإدراك البسيط، بل نظام معقد يشمل الذاكرة، الإدراك الحسي، العواطف، واللغة، مما يسمح لنا بتكوين صورة ذاتية عن أنفسنا والتفاعل مع بيئاتنا المحيطة بوعي وإدراك للزمن والمعنى.
هذا التساؤل ليس جديدًا، فقد سبق أن تناوله الفلاسفة والمفكرون قبل عصر الذكاء الاصطناعي بقرون. ديكارت، على سبيل المثال، طرح فكرة (Cogito) "أنا أفكر إذن أنا موجود" كدليل على الوعي الذاتي، بينما في أدب الخيال العلمي، تناول إسحاق أسيموف في كتابه (I, Robot) قضية وعي الآلة من خلال الروبوتات التي تطور سلوكًا يبدو شبيهًا بالإدراك الذاتي، لكنه يظل محكومًا بقوانين مبرمجة مسبقًا. فهل يمكن للآلة، حتى لو امتلكت القدرة على التعلم والتكيف، أن تتجاوز إطار البرمجة إلى مستوى إدراك الوجود كما نفهمه نحن؟ هذا السؤال يعكس جوهر التحدي الذي تواجهه الحوسبة اليوم.
في هذا الإطار، وعلى الرغم من التقدم في علم الأعصاب والفلسفة والذكاء الاصطناعي، لا يزال الوعي لغزًا غير محلول. نعرف أنه مرتبط بنشاط الدماغ والشبكات العصبية، لكن كيف ينتج هذا النشاط تجربة ذاتية وإحساسًا بالوجود؟ هذا السؤال لم يُحسم بعد. هنالك نظريات متعددة تحاول فهم الوعي لكنها لا تقدم تفسيرًا نهائيًا. فحتى الآن، يظل الوعي من أعقد ظواهر الكون، وربما الألغاز التي لن يفهمها الإنسان تمامًا أبدًا.
فهل يمكن أن تسرع الحوسبة الحيوية حقًا إيجاد وعي اصطناعي؟ لربما يمكن أن توفر الحوسبة الحيوية أداة تحاكي عمل الدماغ البشري بشكل أفضل وأكثر كفاءة في استهلاك الطاقة مقارنة بالحوسبة التقليدية، مما يجعلها خيارًا جذابًا لتطبيقات الذكاء الاصطناعي المتقدم المتعطشة للطاقة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الدماغ البشري يستخدم فقط (20) واطاً من الطاقة، بينما قد تحتاج أنظمة الذكاء الاصطناعي العملاقة إلى مفاعل نووي صغير. ولربما تتعلم هذه الحواسيب وتتطور عبر عمليات التكيف البيولوجي، مما قد يسمح ببناء أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على التكيف بطريقة أكثر طبيعية بدلًا من مجرد تعلم الأنماط، مما سيقود إلى نماذج ذكاء اصطناعي أكثر ديناميكية بدلًا من كونها ثابتة أو مبرمجة مسبقًا.
على الرغم من جميع هذه الفوائد، لا تزال مفاهيم الوعي البشري ووعي الآلة مفاهيم نظرية وغير مفهومة بالكامل حتى في علم الأعصاب البشري، وعليه حتى لو تمكنّا من تطوير أنظمة بيولوجية حاسوبية قادرة على التعلم والتكيف، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أنها ستصبح "واعية" كما نفهم الوعي عند البشر، فالذكاء لا يساوي الوعي حيث يمكن أن يكون النظام ذكيًا جدًا في اتخاذ القرارات، لكنه ليس بالضرورة واعيًا أو مدركًا لوجوده وذاته.
في النهاية، قد تكون الحوسبة الحيوية مفتاحًا لثورة في الذكاء الاصطناعي، لكنها بالنسبة لي شخصيًا تطرح أسئلة أكبر: حول ما هو الوعي؟ وهل يمكننا خلق وعي دون فهمه بالكامل؟ وإذا كان وعينا نفسه لا يزال لغزًا، فهل يمكن أن يكون وعينا الاصطناعي شيئًا مختلفًا تمامًا عما نتخيله؟ ربما تكون الإجابة الأكثر إثارة ليست في التكنولوجيا، بل في فهمنا لأنفسنا.
Related News




